أحكام القرآن (الجصاص)، ج ٥، ص : ٧٠
لأن الناس في دم القران والمتعة على قولين منهم من لا يجيز الأكل منه ومنهم من يبيح الأكل منه ولا يوجبه ولا خلاف بين السلف ومن بعدهم من الفقهاء أن قوله فَكُلُوا مِنْها ليس على الوجوب وقد روى عن عطاء والحسن وإبراهيم ومجاهد قالوا إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل قال مجاهد إنما هو بمنزلة قوله تعالى وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وقال إبراهيم كان المشركون لا يأكلون من البدن حتى نزلت فَكُلُوا مِنْها فإن شاء أكل وإن شاء لم يأكل وروى يونس بن بكير عن أبى بكر الهذلي عن الحسن قال كان الناس في الجاهلية إذا ذبحوا لطخوا بالدم وجه الكعبة وشرحوا اللحم ووضعوه على الحجارة وقالوا لا يحل لنا أن نأكل شيئا جعلناه للّه حتى تأكله السباع والطير فلما جاء الإسلام جاء الناس إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا شيئا كنا نصنعه في الجاهلية ألا نصنعه الآن فإنما هو للّه فأنزل اللّه تعالى فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لا تفعلوا فإن ذلك ليس للّه
وقال الحسن فلم يعزم عليهم الأكل فإن شئت فكل وإن شئت فدع وقد روى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه أكل من لحم الأضحية
قال أبو بكر وظاهر الآية يقتضى أن يكون المذكور في هذه الآية من بهيمة الأنعام التي أمرنا بالتسمية عليها هي دم القرآن والمتعة وأقل أحوالها أن تكون شاملة لدم القرآن والمتعة وسائر الدماء وإن كان الذي يقتضيه ظاهره دم المتعة والقران والدليل على ذلك قوله تعالى في نسق التلاوة فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ولا دم تترتب عليه هذه الأفعال إلا دم المتعة والقران إذ كان سائر الدماء جائزا له فعلها قبل هذه الأفعال وبعدها فثبت أن المراد بها دم القران والمتعة وزعم الشافعى أن دم المتعة والقران لا يؤكل منهما وظاهر الآية يقتضى بطلان قوله وقد روى جابر وأنس وغيرهما أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان قارنا في حجة الوداع
وروى جابر أيضا وابن عباس أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أهدى في حجة الوداع مائة بدنة نحر بيده منها ستين وأمر ببقيتها فنحرت وأخذ من كل بدنة بضعة فجمعت في قدر وطبخت وأكل منها وتحسى من المرقة فأكل صلّى اللّه عليه وسلّم من دم القران
وأيضا لما ثبت أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان قارنا وإنه لم يكن ليختار من الأعمال إلا أفضلها فثبت أن القران أفضل من الإفراد وأن الدم الواجب به إنما هو نسك وليس بجبران لنقص أدخله في الإحرام ولما كان نسكا جاز الأكل منه كما يأكل من الأضاحى


الصفحة التالية
Icon