فإن من أصرح ما ورد فيها قوله: (إن الله - عز وجل - لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلماء، فيقبض العلم، حتى إذا لم يترك عالماً، اتخذ الناس رؤساء جُهّالاً، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) رواه البخاري في كتاب الاعتصام، وترجم له بقوله: (بابُ ما يذكر من ذمِّ الرأي وتكلف القياس)(٨).
وأمّا ما ورد عن السلف، فمنها:
١- ما سبق ذكره عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - والحسن البصري - رحمه الله - من نهيهما عن الرأي.
٢- عن مسروق (ت: ٦٣هـ) قال: (من يرغب برأيه عن أمر الله يضلّ)(٩).
٣- وقال الزهري (ت: ١٢٤هـ): (إياكم وأصحاب الرأي، أعيتهم الأحاديث أن يعوها)(١٠).
وممن نُقِل عنه ذم الرأي أو القياس ابن مسعود (ت: ٣٣هـ) من الصحابة، وابن سيرين (ت: ١١٠هـ) من تابعي الكوفة، وعامر الشعبي (ت: ١٠٤هـ) من تابعي الكوفة، وغيرهم(١١).
صور الرأي المذموم:
ذكر العلماء صوراً للرأي المذموم، ويطغى على هذه الصّوَر الجانب الفقهي؛ لكثرة حاجة الناس له، حيث يتعلّق بحياتهم ومعاملاتهم. ومن هذه الصور ما يلي:
١- القياس على غير أصل(١٢).
٢- قياس الفروع على الفروع(١٣).
٣- الاشتغال بالمعضلات(١٤).
٤- الحكم على ما لم يقع من النّوازل(١٥).
٥- ترك النظر في السنن اقتصاراً على الرأي، والإكثار منه(١٦).
٦- من عارض النصّ بالرأي، وتكلف لردِّ النص بالتأويل(١٧).
٧- ضُروب البدع العقدية المخالفة للسنن(١٨).
هذه بعض الصور التي ذكرها العلماء في الرأي المذموم، وسيأتي صور أخرى تخصّ التفسير.
ثانياً: الرأي المحمود:
هذا النوع من الرأي هو الذي عَمِلَ به الصحابة والتابعون ومن بعدهم من علماء الأمّة، وحدّه أن يكون مستنداً إلى علمٍ(١٩)، وما كان كذلك فإنه خارج عن معنى الذمِّ الذي ذكره السلف في الرأي.
ومن أدلة جواز إعمال الرأي المحمود ما يلي:
ب - قال الأزهري (ت: ٣٧٠): (... عن أبي حاتم (ت: ٢٥٥) في قوله: ((فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ)) [الأنبياء: ٨٧] أي: لن نضيِّق عليه.
قال - أي: أبو حاتم : ولم يدر الأخفش ما معنى ((نَقْدِرَ))، وذهب إلى موضع القُدرة، إلى معنى: فظنّ أن يفوتنا، ولم يعلم كلام العرب حتى قال: إن بعض المفسرين قال: أراد الاستفهام: أفظنّ أن لن نقدر عليه؟ ولو علم أن معنى نقدر: نضيِّق، لم يَخْبِط هذا الخبط، ولم يكن عالماً بكلام العرب، وكان عالماً بقياس النحو)(٨).
* ومن العلوم التي يلزم معرفتها الناسخ والمنسوخ وما شابهه من المباحث؛ كالمطلق والمقيد، والخاص والعام، ومعرفتها لازمة للمفسر بلا شك، ومن الآثار التي يمكن الاعتماد عليها في ذلك ما رواه أبو عبد الرحمن السلمي قال: (انتهى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى رجل يقصّ(٩)، فقال: أعلمتَ الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا. قال: هلكتَ وأهلكتَ)(١٠).
وقد استدل مَنْ كتب في علم الناسخ والمنسوخ في القرآن بهذا الأثر لبيان أهمية هذا العلم. وإذا كان علي ـ رضي الله عنه ـ قد اعترض على القاصِّ؛ فالمفسر من باب أوْلى ينبغي أن ينبّه إلى ذلك، لما في جهل هذا العلم من أثر في عدم فهم التفسير.
* ومن العلوم سبب النزول وقصص الآي؛ ذلك أن معرفة سبب النزول وقصص الآي يفيد في معرفة تفسير الآية.
ومن الأمثلة التي تدل على أهمية معرفة هذا الجانب، وأن عدم معرفته يوقع في الخطأ، ما وقع لأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت: ٢١٠) في تفسير قوله ـ تعالى ـ: ((وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ)) [الأنفال: ١١] حيث قال: (مجازه: يفرغ عليهم الصبر، وينزِّلُه عليهم، فيثبتون لعدوهم)(١١).
وسبب النزول يدلّ على خطأ أبي عبيدة في تفسيره هذا، فلما لم يعرف السبب نحى في تفسيره هذا المنحى اللغوي الذي لا تدلّ عليه الآية بسببها.
ومن نتائج عدم دقة هذا المصطلح نشأ خطأ آخر، وهو جعل التفسير بالرأي مقابلاً للتفسير بالمأثور وهو الأنواع الأربعة السابقة حتى صار في هذه المسألة خلط وتخبط، وبنيت على هذا التقسيم معلومات غير صحيحة، ومنها:
١- أن بعضهم يقررون في تفسير الصحابة والتابعين أنهم اجتهدوا وقالوا فيه برأيهم، ثم يجعلون ما قالوه بهذا الرأي من قبيل المأثور ناسين ما مرروه من قول بأنهم قالوا بالرأي، فيجعل قولهم مأثوراً وقول من بعدهم رأياً، فكيف هذا؟ وإذا كان الصحابة قالوا في التفسير برأيهم فلا معنى لتفضيلهم على غيرهم ممن بعدهم في هذه المسألة، وهذا لا يعني مساواة من بعدهم بهم.
٢- كما تجد أن كتب التفسير تُقسّم إلى كتب التفسير بالمأثور وكتب التفسير بالرأي، وعلى سبيال المثال يجعلون تفسير ابن جرير من قبيل التفسير بالمأثور، ولو أردت تطبيق مصطلح التفسير بالمأثور، فإنك ستجد اختيارات ابن جرير وترجماته، فهل هذه من قبيل الرأي أم من قبيل المأثور؟ فإن كان الأول فكيف يحكم عليه بأنه مأثور؟! وإن كان الثاني فإنه غير منطبق لوجود اجتهادات ابن جرير، وفرق بين أن نقول: فيه تفسير بالمأثور، أو نقول هو تفسير بالمأثور.
٣- وقد فهم بعض العلماء أن من فسر بالأثر فإنه لا اجتهاد ولا رأي له بل هو مجرد ناقل، لا عمل له غير النقل، ويظهر أن هذا مبني على ما سبق من أن التفسير بالمأثور الذي يشمل الأربعة السابقة يقابله التفسير بالرأي.