١- مفهوم الآيات السابقة والحديث المذكور في أدلة النهي عن الرأي المذموم؛ لأنها كلها تدل على أن القول بغير علم لا يجوز، ويفهم من ذلك أن القول بعلم يجوز.
٢- فعل السلف وأقوالهم، ومنها:
أ - عن عبد الرحمن بن يزيد قال: أكثرَ الناس على عبد الله (يعني: ابن مسعود) يسألونه، فقال: أيها الناس إنه قد أتى علينا زمان نقضي ولسنا هناك، فمن ابتلي بقضاءٍ بعد اليوم فليقض بما في كتاب الله، فإن أتاه ما ليس في كتاب الله - ولم يَقُلْهُ نبيّه - فليقض بما قضى به الصالحون، فإن أتاه أمر لم يقض به الصالحون - وليس في كتاب الله، ولم يقل فيه نبيّه - فليجتهد رأيه، ولا يقول: أخاف وأرى، فإن الحلال بَيِّنٌ، والحرام بَيِّنٌ، وبَيْنَ ذلك أمورٌ مشتبهات، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم)(٢٠).
قال ابن عبد البر (ت: ٤٦٣هـ) معلقاً على هذا القول: (هذا يوضح لك أن الاجتهاد لا يكون إلا على أصولٍ يضاف إليها التحليل والتحريم، وأنه لا يجتهد إلا عالم بها، ومن أشكل عليه شيءٌ لزمه الوقوف، ولم يَجُز له أن يُحيلَ على الله قولاً في دينه لا نظير له من أصلٍ ولا هو في معنى أصلٍ. وهذا لا خلاف فيه بين أئمة الأمصار قديماً وحديثاً؛ فتدبّره)(٢١).
ب - وعن الشعبي (ت: ١٠٤هـ) قال: لما بعث عمرُ شريحاً على قضاء الكوفة قال له: انظر ما تبيّن لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحداً، وما لم يتبيّن لك في كتاب الله فاتّبع فيه سنة رسول الله -، وما لم يتبين لك فيه السنة فاجتهد رأيك)(٢٢).
ج - وعن مسروق (ت: ٦٣هـ) قال: سألت أُبَيّ بن كعب عن شيءٍ؛ فقال: أكان هذا؟
قلت: لا.
قال: فأجمّنا (أي: اتركنا أو أرحنا) حتى يكون؛ فإذا كان اجتهدنا لك رأينا)(٢٣).
الرّأيُ فِي التّفْسِير:
والتثبيت المذكور في الآية حقيقي، وهو أن أقدام المسلمين لا تسوخ في الرمل لما نزل عليه المطر، وبهذا جاء التفسير عن الصحابة الذين شاهدوا النزول، وعن التابعين الذين نقلوا عنهم(١٢).
* ومنها معرفة السنة النبوية، ويكون ذلك بالرجوع إلى صريح التفسير عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما يكون بالرجوع إلى أقواله وأفعاله التي لها أكبر الأثر في فهم القرآن.
ومما يمكن التمثيل به من استعانة المفسر بالسنة النبوية، ما رواه الطبري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (ما رأيت أشبه باللمم مما قاله أبو هريرة عن النبي: إن الله كتب على ابن آدم حظّه من الزنى، أدركه ذلك لا محالة، فزنى العينين النظر...)(١٣).
ثم إن عدم معرفة السنة التي تفسر القرآن قد تجعل المفسر يجنح إلى مصدر آخر؛ فيفسر به لعدم ورود هذا التفسير النبوي إليه.
ومما يمكن أن يُمثّل به هنا ما روي عن السلف في تفسير قوله - تعالى: ((يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ)) [القلم: ٤٢] فقد فسّر جمع من السلف الساق بالمعنى اللغوي، أي: عن أمر شديد(١٤)، ومنهم: ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعكرمة(١٥).
وقد ورد في حديث أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: (سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كلّ مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رئاءً وسُمعة، فيذهب ليسجد، فيعود ظهره طبقاً واحداً)(١٦).
وهذا الحديث يفسِّرُ الساق الذي جاء في الآية نكرةً لم يُضَفْ، ويبيِّن أن المراد بالساق ساق ربنا ـ عزّ وجلّ ـ.
ولو لم يَرِدْ هذا الحديثُ لاعتُمِدَ قول ابن عباس وتلاميذه في تفسير الساق، والله أعلم.
وبعد.. فهذه بعض العلوم التي إن جهل المفسر بها فإنه يقع في التأويل الخطأ، ولا يحالفه الصواب في معنى الآية(١٧).
الثاني: نَظَرٌ في طبقة المفسر:
ومن ذلك ما قاله الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله: (أما الذين جمدوا على القول بأن تفسير القرآن يجب ألا يعدو ما هو مأثور، فهم رموا هذه الكلمة على عواهنها، ولم يوضحوا مرادهم من المأثور عمن يؤثر...). ثم قال: (وقد التزم الطبري في تفسيره أن يقتصر على ما هو مروي عن الصحابة والتابعين لكنه لا يلبث في كل آية أن يتخطى ذلك إلى اختياره منها، وترجيح بعضها على بعض بشواهد من كلام العرب، وحسبه بذلك تجاوزاً لما حدده من الاقتصار على التفسير بالمأثور، وذلك طريق ليس بنهج، وقد سبقه إليه بقي بن مخلد، ولم نقف على تفسيره، وشاكل الطبري فيه معاصروه، مثل ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم، فلله درّ الذين لم يحبسوا أنفسهم في تفسير القرآن على ما هو مأثور، مثل الفراء وأبي عبيدة من الأولين، والزجاج والرماني ممن بعدهم، ثم من سلكوا طريقهم، مثل الزمخشري وابن عطية).(١٠)
وها هنا وقفات ناقدة لهذا الكلام:
الأولى: لم يصرح الطاهر بن عاشور بأولئك الذين »جمدوا على القول بأن تفسير القرآن يجب ألا يعدو ما هو مأثور« وفي ظني أن هذا لم يُقَل به ولكنه تأوّلٌ لكلام من يرى وجوب الأخذ بما أثر عن السلف.
الثانية: لم يورد الشيخ دليلاً من كلام الطبري يدلّ على التزامه بما روي عن الصحابة والتابعين فقط، ولم يرد عن الطبري أنه يقتصر عليهم ولا يتعدى ذلك إلى الترجيح.
الثالثة: أنه جعل منهج الطبري كمنهج ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم، وشتان بين منهج الطبري الناقد المعتمد على روايات السلف ومنهج هؤلاء الذين اعتمدوا النقل فقط دون التعقيب والتعليق، وهذا المنهج الذي سلكوه لا يُعاب عليهم ؛ لأنهم لم يشترطوا التعليق على الآيات والتعقيب على المرويات، بل كانوا يوردون ما وصلهم من تفاسير السلف، وهم بهذا لا يُعدون مفسرين، بل هم ناقلو تفسير.