*الترجمة الحرفية ليست تفسيراً للقرآن:
اتضح لنا مما سبق معنى الترجمة الحرفية بقسميها، وأقمنا الدليل بما يناسب المقام على عدم إمكان الترجمة الحرفية بالمثل، وعدم جواز الترجمة الحرفية بغير المثل، وإن كانت ممكنة، ولكن بقى بعد ذلك هذا السؤال: هل الترجمة الحرفية بقسميها - على فرض إمكانها فى الأول وجوازها فى الثانى - تمسى تفسيراً للقرآن بغير لغته؟ أو لا تدخل تحت مادة التفسير؟
وللجواب عن هذا نقول:
إن الترجمة الحرفية بالمثل، تقدَّم لنا أن معناها ترجمة نظم الأصل بلغة أخرى تحاكيه حذواً بحذو، بحيث تحل مفردات الترجمة محل مفردات الأصل وأسلوبها محل أسلوبه، حتى تتحمل الترجمة ما تحمله نظم الأصل من المعانى البلاغية، والأحكام التشريعية. وتقدَّم لنا أيضاً أن هذه الترجمة بالنسبة للقرأن غير ممكنة، وعلى فرض إمكانها فهى ليست من قبيل تفسير القرآن بغير لغته، لأنها عبارة عن هيكل القرآن بذاته، إلا أن الصورة اختلفت باختلاف اللغتين: المترجَم منها والمترجَم إليها. وعلى هذا فأبناء اللغة المترجم إليها يحتاجون إلى تفسيره وبيان ما فيه من أسرار وأحكام، كما يحتاج العربى الذى نزل بلغته إلى تفسيره والكشف عن أسراره وأحكامه، ضرورة أن هذه الترجمة لا شرح فيها ولا بيان، وإنما فيها إبدال لفظ بلفظ آخر يقوم مقامه، ونقل معنى الأصل كما هو من لغة إلى لغة أخرى.
وأما الترجمة الحرفية بغير المثل، فقد تقدَّم لنا أن معناها ترجمة نظم القرآن حذواً بحذو، بقدر طاقة المترجِم وما تسعه لغته، وتقدَّم لنا أن هذا غير جائز بالنسبة للقرآن وعلى فرض جوازها فهى ليست من قبيل تفسير القرآن بغير لغته، لأنها عبارة عن هيكل للقرآن منقوص غير تام، وهذه الترجمة لم يترتب عليها سوى إبدال لفظ بلفظ آخر يقوم مقامه فى تأديه بعض معناه، وليس فى ذلك شيء من الكشف والبيان، لا شرح مدلول، ولا بيان مجمل، ولا تقييد مطلق، ولا استنباط أحكام، ولا توجيه معان، ولا غير ذلك من الأمور التى اشتمل عليها التفسير المتعارَف.
* *
*الترجمة التفسيرية للقرآن:
الترجمة التفسيرية أو المعنوية، تقدَّم لنا أنها عبارة عن شرح الكلام وبيان معناه بلغة أخرى، بدون محافظة على نظم الأصل وترتيبه، وبدون المحافظة على جميع معانيه المرادة منه، وذلك بأن نفهم المعنى الذى يراد من الأصل، ثم نأتى به بتركيب من اللغة المترجَم إليها يؤديه على وفق الغرض الذى سيق له.
وعُلِم مما تقدَّم مقدار الفرق بين الترجمة الحرفية والترجمة التفسيرية، ولإيضاح هذا الفرق نقول:
لو أراد إنسان أن يترجم قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ ترجمة حرفية لأتى بكلام يدل على النهى عن ربط اليد فى العنق، وعن مدها غاية المد، ومثل هذا التعبير فى اللغة المترجَم إليها ربما كان لا يؤدى المعنى الذى قصده القرآن، بل قد يستنكر صاحب تلك اللغة هذا الوضع الذى ينهى عنه القرآن، ويقول فى نفسه: إنه لا يوجد عاقل يفعل بنفسه هذا الفعل الذى نهى عنه القرآن، لأنه مثير للضحك على فاعله والسخرية منه، ولا يدور بخلد صاحب هذه اللغة، المعنى الذى أراده القرآن وقصده من وراء هذا التشبيه البليغ. أما إذا أراد أن يترجم هذه الجملة ترجمة تفسيرية، فإنه يأتى بالنهى عن التبذير والتقتير، مصورِّرين بصورة شنيعة، ينفر منها الإنسان، حسبما يناسب أسلوب تلك اللغة المترجَم إليها، ويناسب إلف مَن يتكلم بها. ومن هذا يتبين أن الغرض الذى أراده الله من هذه الآية، يكون مفهوماً بكل سهولة ووضوح فى الترجمة التفسيرية، دون الترجمة الحرفية.
إذا عُلِم هذا، أصبح من السهل علينا وعلى كل إنسان أن يقول بجواز ترجمة القرآن ترجمة تفسيرية بدون أن يتردد أدنى تردد، فإن ترجمة القرآن ترجمة تفسيرية ليست سوى تفسير للقرآن الكريم بلغة غير لغته التى نزل بها.
وحيث اتفقت كلمة المسلمين، وانعقد إجماعهم على جواز تفسير القرآن لمن كان من أهل التفسير بما يدخل تحت طاقته البشرية، بدون إحاطة بجميع مراد الله، فإنَّا لا نشك فى أن الترجمة التفسيرية للقرآن داخلة تحت هذا الإجماع أيضاً، لأن عبارة الترجمة التفسيرية محاذية لعبارة التفسير، لا لعبارة الأصل القرآنى، فإذا كان التفسير مشتملاً على بيان معنى الأصل وشرحهه، بحل ألفاظه فيما يحتاج تفهمه إلى الحل، وبيان مراده كذلك، وتفصيل معناه فيما يحتاج للتفصيل، وتوجيه مسائله فيما يحتاج للتوجيه، وتقرير دلائله فيما يحتاج للتقرير، ونحو ذلك من كل ما له تعلق بتفهم القرآن وتدبره، كانت الترجمة التفسيرية أيضاً مشتملة على هذا كله، لأنها ترجمة للتفسير لا للقرآن.
وقصارى القول: إن فى كل من التفسير وترجمته بيان ناحية أو أكثر من نواحى القرآن التى لا يحيط بها إلا مَن أنزله بلسان عربى مبين، وليس فى واحد منهما إبدال لفظ مكان لفظ القرآن، ولا إحلال نظم محل نظم القرآن بل نظم القرآن باق معهما، دال على معانيه من جميع نواحيه.
* *


الصفحة التالية
Icon