وكان من بين المسلمين مَن أهمل هداية القرآن، وركب رأسه فى طريق الغواية، فَلم ينهج هذا المنهج الواضح القويم الذى سلكه سَلَفه الصالح فى فهم القرآن الكريم والأخذ به، فأخذ يتأوَّل القرآن على غير تأويله، وسلك فى شرح نصوصه طريقاً ملتوية، فيها تعسف ظاهر وتكلف غير مقبول، وكان الذى رمى به فى هذه الطريق الملتوية التى باعدت بينه وبين هداية القرآن، هو تسلط العقيدة على عقله وقلبه، وسمعه وبصره، فحاول أن يأخذ من القرآن شاهداً على صدق بدعته، وتحايل على نصوصه الصريحة لتكون دعامة يقيم عليها أصول عقيدته ونزعته، فحرَّف القرآن عن مواضعه، وفسّر ألفاظه على تحمل ما لا تدل عليه، فكان من وراء ذلك فتنة فى الأرض وفساد كبير!!
وكان بجوار هذا الفريق من المسلمين، فريق آخر منهم، برع فى علوم حدثت فى المِلَّة، ولم يكن للعرب بها عهد من قبل، فحاولوا أن يصلوا بينها وبين القرآن، وأن يربطوا بين ما عندهم من قواعد ونظريات وبين ما فى الدوافع ولحافز على هذا العمل، منهم مَن قصد حذق هذه العلوم وترويجها على حساب القرآن، ومنهم مَن أراد خدمة الدين وتفهم القرآن على ضوء هذه العلوم، وأخيراً خرج هذا الفريق على الناس بتفاسير كثيرة، فيها خير وشر، وبينها تفاوت فى المنهج، واختلاف فى طريقة الشرح ووسيلة البيان.
وكان من وراء هؤلاء وهؤلاء فريق التحف الإسلام وتبطَّن الكفر، يحمل بين فكيه لساناً مسلماً، وبين جنبيه قلباً كافراً مظلماً، يحرص كل الحرص على أن يطفئ نور الإسلام ويهدم عز المسلمين، فلم يجد أعوان له على هذا الغرض السئ، من أن يتناول القرآن بالتحريف والتبديل، والتأويل الفاسد الذى لا يقوم على أساس من الدين، ولا يستند إلى أصل من اللغة، ولا يرتكز على دليل من العقل... وأخيراً خرج هؤلاء أيضاً على الناس بتأويلات فيها سخف ظاهر وكفر صريح، خفى على عقول بعض الأغمار الجهلة، ولكن لم يجد إلى قلوب عقلاء المسلمين سبيلاً، ولم يلق من نفوسهم رواجاً ولا قبولاً، بل وكان منهم من أفرغ همه لدحض هذه التأويلات، وأعمل لسانه وقلمه لإبطال هذه الشبهات، فوقى الله بهم المسلمين من شَرٍّ، وحفظ بهم الإسلام من ضُرٍّ، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
خلف لنا هؤلاء جميعاً - مسلمون وأشباه مسلمين، مبتدعون وغير مبتدعين، كتباً كثيرة فى تفسير القرآن الكريم، كل كتاب منا يحمل طابع صاحبه، ويتأثر بمذهب مؤلفه، ويتلون باللون العلمى الذى يروج فى العصر الذى أُلِّفَ فيه، ويغلب على غيره من النواحى العلمية لكاتبه، وعنى المسلمون بدراسة بعض هذه الكتب، وقّلّ اهتمامهم ببعض آخر منها، فأحببتُ أن أُقدِّم للمكتبة الإسلامية كتاباً يُعتبر باكورة إنتاجى فى التأليف عنوانه:
"التفسير والمفسِّرون"
وهو كتاب يبحث عن نشأة التفسير وتطوره، وعن مناهج المفسِّرين وطرائقهم فى شرح كتاب الله تعالى، وعن ألوان التفسير عند أشهر طوائف المسلمين ومَن ينتسبون إلى الإسلام، وعن ألوان التفسير فى هذا العصر الحديث... وراعيت أن أُضَمِّن هذا الكتاب بعض البحوث التى تدور حول التفسير، من تطرق الوضع إليه، ودخول الإسرائيليات عليه، وما يجب أن يكون عليه المفسِّر عندما يحاول فهم القرآن أو كتابة التفسير، وما إلى ذلك من بحوث يطول ذكرها، ويجدها القارئ مفصَّلة مُسْهَبة فى هذا الكتاب.
ورجوتُ من وراء هذا العمل أن أُنبه المسلمين إلى هذا التراث التفسيرى، الذى اكتظت به المكتبة الإسلامية على سعتها وطول عهدها، وإلى دراسة هذه التفاسير على اختلاف مذاهبها وألوانها، وألا يقصروا حياتهم على دراسة كتب طائفة واحدة أو طائفتين، دون مَن عداهما مِن طوائف كان لها فى التفسير أثر يُذكر فيُشكر أو لا يُشكر.
ورجوت أيضاً أن يكون لعشاق التفسير من وراء هذا المجهود موسوعة تكشف لهم عن مناهج أشهر المفسِّرين وطرائقهم التى يسيرون عليها فى شرحهم لكتاب الله تعالى، ليكون مَن يريد أن يتصفح تفسيراً منها على بصيرة على الكتاب الذى يريد أن يقرأه، وعلى بيِّنة من لونه ومنهجه، حتى لا يغتر بباطل أو ينخدع بسراب.
وفى اعتقادى أن فى هذا الموضوع جدة وطرافة، جدة: إذ لم أُسبق إليه إليه إلا بمحاولات بسيطة غير شاملة، وطرافة: إذ يعطى القارئ صوراً متنوعة عن لون من التفكير الإسلاميى فى عصوره المختلفة، ويكشف له عن أفكار وأفهام تفسيرية، فيها بغرابة وطرافة، وحق وباطل، وإنصاف واعتساف، ومحاورة شيِّقة، وجدل عنيف.
وقد رتَّبتُ الكتاب على مقدمة، وثلاثة أبواب وخاتمة.
أما المقدمة، فقد جعلتها على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: فى معنى التفسير والتأويل والفرق بينهما.
المبحث الثانى: فى تفسير القرآن بغير لغته.
المبحث الثالث: فى اختلاف العلماء فى التفسير، هل هو من قبيل التصورات، أو من قبيل التصديقات؟


الصفحة التالية
Icon