غير أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، كانوا متفاوتين فى معرفتهم بهذه الأدوات، فلم يكونوا جميعاً فى مرتبة واحدة، السبب الذى من أجله اختلفوا فى فهم بعض معانى القرآن، وإن كان اختلافاً يسيراً بالنسبة لاختلاف التابعين ومَن يليهم. ومن أمثلة هذا الاختلاف: ما روى من أن عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين فقدم الجارود على عمر فقال: إن قدامة شرب فسكر، فقال عمر: مَن يشهد على ما تقول؟ قال الجارود: أبو هريرة يشهد على أقول، فقال عمر: يا قدامة إنى جَالِدُك، قال: واللهِ لو شربت كما يقول ما كان لك أن تجلدنى، قال عمر: ولمَ؟ قال: لأن الله يقول: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُو؟اْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ﴾ فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقو وأحسنوا، شهدتُ مع رسول الله ﷺ بدراً، وأُحُداً، والخندق، والمشاهد. فقال عمر: ألأا تردون عليه قوله؟ فقال ابن عباس: إن هذه الآيات أُنزلت عذراً للماضين وحُجَّة على الباقين، لأن الله يقول: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾.. قال عمر: صدقت..
وما روى من أن الصحابة فرحوا حينما نزل قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ لظنهم أنها مجرد إخبار وبُشرى بكمال الدين، ولكن عمر بكى وقال: ما بعد الكمال إلا النقص، مستشعراً نعى النبى صلى الله عليه وسلم، وقد كان مصيباً فى ذلك، إذ لم يعش النبى ﷺ بعدها إلا أحداً وثمانين يوماً كما روى".
وما رواه البخارى من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "كان عمر يُدخلنى مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وَجَدَ فى نفسه وقال: لِمَ يُدخل هذا معنا وإنَّ لنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من أعلمكم، فدعاهم ذات يوم فأدخلنى معهم فما رأيت أنه دعانى فيهم إلا ليريهم، فقال: ما تقولون فى قوله تعالى: ﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾؟ فقال بعضهم: أُمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم ولم يقل شيئاً، فقال لى: أكذلك تقول يابن عباس؟ فقلت: لا، فقال: ما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله ﷺ أعلمه الله له، قال: ﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ فذلك علامة أجلك، ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾.. فقال عمر: لا أعلم منها إلأا مَا تقول".
* * *
*المصدر الرابع من مصادر التفسير فى هذا العصر - أهل الكتاب من اليهود والنصارى:
المصدر الرابع للتفسير فى عهد الصحابة هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
وذلك أن القرآن الكريم يتفق مع التوراة فى بعض المسائل، وبالأخص فى قصص الأنبياء، وما يتعلق بالأمم الغابرة، وكذلك يشتمل القرآن على مواضع وردت فى الإنجيل كقصة ميلاد عيسى ابن مريم، ومعجزاته عليه السلام.
غير أن القرآن الكريم اتخذ منهجاً يخالف منهج التوراة والإنجيل، فلم يتعرض لتفاصيل جزئيات المسائل، ولم يستوف القصة من جميع نواحيها، بل اقتصر من ذلك على موضع العبرة فقط.
ولما كانت العقول دائماً تميل إلى الاستيفاء والاستقصاء، جعل بعض الصحابة - رضى الله عنهم أجمعين - يرجعون فى استيفاء هذه القصص التى لم يتعرض لها القرآن من جميع نواحيها إلى مَن دخل فى دينهم من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، وغيرهم من علماء اليهود والنصارى.
وهذا بالضرورة كان بالنسبة إلى ما ليس عندهم فيه شئ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه لو ثبت شئ فى ذلك عن رسول الله ما كانوا يعدلون عنه إلى غيره مهما كان المأخوذ عنه.
* *
* أهمية هذا المصدر بالنسبة للمصادر السابقة:
غير أن رجوع بعض الصحابة إلى أهل الكتاب، لم يكن له من الأهمية فى التفسير ما للمصادر الثلاثة السابقة، وإنما كان مصدراً ضيِّقاً محدوداً، وذلك أن التوراة والإنجيل وقع فيهما كثير من التحريف والتبديل، وكان طبيعياً أن يحافظ الصحابة على عقيدتهم، ويصونوا القرآن عن أن يخضع فى فهم معانيه لشئ مما جاء ذكره فى هذه الكتب التى لعبت فيها أيدى المحرِّفين، فكانوا لا يأخذون عن أهل الكتاب إلا ما يتفق وعقيدتهم ولا يتعارض مع القرآن. أما ما اتضح لهم كذبه مما يعارض القرآن ويتنافى مع العقيدة فكانوا يرفضونه ولا يصدِّقونه، ووراء هذا وذاك ما هو مسكوت عنه، لا هو من قبيل الأول، ولا هو من قبيل الثانى، وهذا النوع كانوا يسمعونه من أهل الكتاب ويتوقفون فيه، فلا يحكموون عليه بصدق ولا بكذب، امتثالاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تًُصدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكذِّبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أُنزل إلينا..." الآية.