كان ابن عباس يُلقَّب بالحَبْر والبحر لكثرة علمه، وكان على درجة عظيمة من الاجتهاد والمعرفة بمعنى كتاب الله، ولذا انتهت إليه الرياسة فى الفتوى والتفسير، وكان عمر رضى الله عنه يُجلسه فى مجلسه مع كبار الصحابة ويُدينه منه، وكان يقول له: إنك لأصبح فتياننا وجهاً، وأحسنهم خُلُقاً، وأقفههم فى كتاب الله. وقال فى شأنه: ذاكم فتى الكهول، إنَّ له لساناً سئولاً، وقلباً عقولاً. وكان لفرط أدبه إذا سأله عمر مع الصحابة عن شئ يقول لا أتكلم حتى يتكلموا. وكان عمر رضى الله عنه يعتد برأى ابن عباس مع حداثة سنه، يدلنا على ذلك ما رواه ابن الأثير فى كتابه "أُسد الغابة" عن عبدي الله بن عتبة قال: "إن عمر كان إذا جاءته الأقضية المعضلة قال لابن عباس: إنها قد طرأت علينا أقضية وعضل، فأنت لها ولأمثالها، فكان يأخذ بقوله، وما كان يدعو لذلك أحداً سواه" قال عبيد الله: وعمر هو عمر فى حذقه واجتهاده لله وللمسلمين، وما رواه البخارى من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "كان عمر يُدخلنى مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وَجَدَ فى نفسه وقال: لِمَ يُدخل هذا معنا وإنَّ لنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من أعلمكم، فدعاهم ذات يوم فأدخلنى معهم، فما رأيت أنه دعانى يومئذ إلا ليريهم، فقال: ما تقولون فى قوله: ﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾؟ فقال بعضهم: أُمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم ولم يقل شيئاً، فقال لى: أكذلك تقول يا بن عباس؟ فقلت: لا، فقال: ما تقول؟ قلت: هو أَجَلُ رسول الله ﷺ أعلمه الله له، قال: ﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ فذلك علامة أجلك، ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾.. فقال عمر: لا أعلم منها إلا ما تقول". وهذا يدل على قوة فهمه وجودة فكره. وقال فيه ابن مسعود رضى الله عنه: "نِعْمَ ترجمان القرآن ابن عباس". وقال فيه عطاء: "ما رأيت أكرم من مجلس ابن عباس، أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر عنده، يصدرهم كلهم من واد واسع". وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: "كان ابن عباس قد فات الناس بخصال: بعلم ما سبقه، وفقه فيما احتيج إليه من رأيه، وحلم، ونسب، وتأويل، وما رأيتُ أحداً كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله ﷺ منه، ولا بقضاء أبى بكر وعمر وعثمان منه، ولا أفقه فى رأى منه، ولا أثقب رأيا فيما احتيج إليه منه، ولقد كان يجلس يوماً ولا يذكر فيه إلا الفقه، ويوماً التأويل، ويوماً المغازى، ويوماً الشعر، ويوماً أيام العرب، ولا رأيت عالماً قط جلس إليه إلا خضع له، وما رأيت سائلاً قط سأله إلا وجد عنده علماً". وقيل لطاووس: لزمت هذا الغلام - يعنى ابن عباس - وتركتَ الأكابر من أصحاب رسول الله، قال: إنى رأيت سبعين رجلاً من أصحاب رسول الله ﷺ إذا تدارءوا فى أمرٍ صاروا إلى قول ابن عباس". وروى عن أبى وائل قال: "استخلف علىّ عبد الله بن عباس على المواسم فقرأ فى خطبته سورة البقرة - وفى رواية: سورة النور - ففسرها تفسيراً لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا" وكان علىّ بن أبى طالب يُثنى على تفسير ابن عباس ويقول: "كأنما ينظر إلى الغيب من سِتر رقيق".
وبالجملة.. فقد كانت حياة ابن عباس حياة علمية، يتعلم ويعُلِّم، ولم يشتغل بالإمارة إلا قليلاً لَّما استعمله علىّ على البصرة، والحق: أن ابن عباس قد ظهر فيه النبوغ العربى بأكمل معانيه. علماً، وفصاحة، وسعة اطلاع فى نواح علمية مختلفة، ولا سيما فهمه لكتاب الله تعالى. وخير ما يُقال فيه ما قاله ابن عمر رضى الله عنهما: "ابن عباس أعلم أُمَّة محمد بما نزل على محمد".
* *
*أسباب نبوغه:
ونستطيع أن نُرجِع هذه الشهرة العلمية، وهذا النبوغ الواسع الفيَّاض، إلى أسباب نجملها فيما يلي:
أولاً: دعاء النبى ﷺ له بقوله: "اللَّهم علِّمه الكتاب والحكمة"، وفى رواية أخرى: "اللَّهم فقِّهه فى الدين، وعلِّمه التأويل"، والذى يرجع إلى كتب التفسير بالمأثور، يرى أثر هذه الدعوة النبوية، يتجلى واضحاً فيما صح عن ابن عباس رضى الله عنه.
ثانياً: نشأته فى بيت النبوة، وملازمته لرسول الله ﷺ من عهد التمييز، فكان يسمع منه الشئ الكثير، ويشهد كثيراً من الحوادث والظروف التى نزلت فيها آيات القرآن.


الصفحة التالية
Icon