وسؤال عمر له مع الصحابة عن تفسير قوله تعالى: ﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ وجوابه بالجواب المشهور عنه، يدل على أن ابن عباس كان يستخرج خفى المعانى التى يشير إليها القرآن، ولا يدركها إلا مَن نفحة الله بنفحة مِن روحه، وكثيراً ما ظهر ابن عباس فى المسائل المعقدة فى التفسير بمظهر الرجل المُلْهَم الذى ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، كما وصفه علىّ رضى الله عنه، الأمر الذى جعل الصحابة يُقدِّرون ابن عباس ويثقون بتفسيره، ولقد وجد هذا التقيدر صداه فى عصر التابعين، فكانت هناك مدرسة يتلقى تلاميذها التفسير عن ابن عباس. استقرت هذه المدرسة بمكة، ثم غدَّت بعلمها الأمصار المختلفة، وما زال تفسير ابن عباس يلقى من المسلمين إعجاباً وتقديراً، إلى درجة أنه إذا صح النقل عن ابن عباس لا يكادون يعدلون عن قوله إلى قول آخر. وقد صرَّح الزركشي بأن قول ابن عبباس مُقدَّمٌ على قول غيره من الصحابة عند تعارض ما جاء عنهم فى التفسير.
*رجوع ابن عباس إلى أهل الكتاب:
كان ابن عباس كغيره من الصحابة الذين اشتهروا بالتفسير، يرجعون فى فهم معانى القرآن إلى ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى ما يفتح الله به عليهم من طريق النظر والاجتهاد، مع الاستعانة فى ذلك بمعرفة أسباب النزول والظروف والملابسات التى نزل فيها القرآن. وكان رضى الله عنه يرجع إلى أهل الكتاب ويأخذ عنهم، بحكم اتفاق القرآن مع التوراة والإنجيل فى كثير من المواضع التى أُجمْلِت فى القرآن وفُصِّلت فى التوراة أو الإنجيل، ولكن كما قلنا فيما سبق: إن الرجوع إلى أهل الكتاب كان فى دائرة محدودة ضيِّقة، تتفق مع القرآن وتشهد له، أما ما عدا ذلك مما يتنافى مع القرآن، ولا يتفق مع الشريعة الإسلامية، فكان ابن عباس لا يقبله ولا يأخذ به.
*اتهام الأستاذ جولدزيهر والأستاذ أحمد أمين لابن عباس وغيره من الصحابة بالتوسع فى الأخذ عن أهل الكتاب:
وإنَّا لنجد فى كتاب "المذاهب الإسلامية فى تفسير القرآن" مبلغ اتهام مؤلفه "جولدزيهر" لابن عباس بتوسعه فى الأخذ عن أهل الكتاب، مخالفاً ما ورد من النهى عن ذلك فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُصدِّقوا أهل الكتاب ولا تُكذِّبوهم" ونرى أن نذكر عبارة المؤلف بنصها، ليتضح مبلغ اتهامه لابن عباس، ثم نرد عليه بعد ذلك. قال: "وكثيراً ما يُذكر أنه فيما يتعلق بتفسير القرآن، كان - أى ابن عباس - يرجع إلى رجل يسمى أبا الجلد غيلان بن فروة الأزدى، الذى أثنى الناس عليه بأنه كان يقرأ الكتب، وعن ميمونة ابنته أنها قال: كان أبى يقرأ القرآن فى كل سبعة أيام، ويختم التوراة فى ستة، يقرؤها نظراً، فإذا كان يوم ختمها، حشد لذلك ناس، وكان يقول: كان يُقال تنزل عند ختمها الرحمة، وهذا الخبر المبالغ فيه من ابنته يمكن أن يبين لنا مكان الأب فى الاستفادة من التوراة.
"ومن بين المراجع العلمية المفضِّلة عند ابن عباس، نجد أيضاً كعب الأحبار اليهودى، وعبد الله بن سلام، وأهل الكتاب على العموم، ممن حذر الناس منهم، كما أن ابن عباس نفسه فى أقواله حذَّر من الرجوع إليهم، ولقد كان إسلام هؤلاء عند الناس فوق التهمة والكذب، ورفُعوا إلى درجة أهل العلم الموثوق بهم.. ولم تكن التعاليم الكثيرة التى أمكَن أن يستقيها ابن عباس، والتى اعتبرها من تلك الأمور التى يُرجع فيها إلى أهل هذا الدين الآخر، مقصورة على المسائل الإنجيلية والإسرائيلية، فقد كان يسأل كعباً عن التفسير الصحيح لأُم القرآن للمرجان مثلاً، وقد رأى الناس فى هؤلاء اليهود أن عندهم أحسن الفهم - على العموم - فى القرآن وفى كلام الرسول (صلى الله عليه وسلم) وما فيهما م المعانى الدينية، ورجعوا إليهم سائلين عن هذه المسائل بالرغم من التحذير الشديد - من كل جهة - من سؤالهم" اهـ.
هذه هى عبارة الأستاذ "جولدزيهر" فى كتابه، ومنها يتضح لنا مبلغ تجنيه على الصحابة وعلى ابن عباس على الأخص.
وقد تابعه الأستاذ أحمد أمين على هذا الرأى، حيث يقول فى "فجر الإسلام": "وقد دخل بعض هؤلاء اليهود فى الإسلام، فتسرَّب منهم إلى المسلمين كثير من هذه الأخبار، ودخلت فى تفسير القرآن يستكملون بها الشرح، ولم يتحرج حتى كبار الصحابة مثل ابن عباس عن أخذ قولهم. روُى أن النبى ﷺ قال:"إذا حدَّثكم أهل الكتاب فلا تُصدِّقوهم ولا تكُذبِّوهم" ولكن العمل كان على غير ذلك، وأنهم كانوا يُصدِّقونهم وينقلون عنهم".
فالأستاذ "جولدزيهر"، والأستاذ أحمد أمين، يريان أن الصحابة - وبخاصة ابن عباس - لم يأبهوا لنهى الرسول صلى الله عليه وسلم، فصدِّقوا أهل الكتاب وأخذوا عنهم الكثير فى التفسير، وأن اللون اليهودى قد صبغ مدارس التفسير القديمة، وبالأخص مدرسة ابن عباس، بسبب اتصالهم بمن دخل فى الإسلام من أهل الكتاب.
* *
*رد هذا الاتهام: