إلى آخر المسائل وأجوبتها، وهى تدل على قوة ابن عباس فى معرفته بلغة العرب، وإلمامه بغريبها، إلى حد لم يصل إليه غيره، مما جعله - بحق - إمام التفسير فى عهد الصحابة، ومرجع المفسِّرين فى الأعصر التالية للعصر الذى وُجِد فيه، وزعيم هذه الناحية من التفسير على الخصوص، حتى لقد قيل فى شأنه: "إنه هو الذى أبدع الطريقة اللغوية لتفسير القرآن".
هذا وقد بيَّن لنا ابن عباس رضى الله عنه، مبلغ الحاجة إلى هذه الناحية فى التفسير، وحضَّ عليها مَن أراد أن يتعرف غريب القرآن، فقد روى أبو بكر الأنبارى عنه أنه قال: "الشعر ديوان العرب، فإذا خفى علينا الحرف من القرآن الذى أنزله الله بلغة العرب، رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا ذلك منه".
وروى ابن الأنبارى عنه أيضاً أنه قال: "إذا سألتمونى عن غريب القرآن فالتمسوه فى الشعر، فإن الشعر ديوان العرب".
فابن عباس رضى الله عنه كان يرى رأى عمر فى ضرورة الرجوع إلى الشعر الجاهلى، للاستعانة به على فهم غريب القرآن، بل وكان أكثر الصحابة إلماماً بهذه الناحية وتطبيقاً لها.
وقد استمرت هذه الطريقة إلى عهد التابعين ومَن يليهم، إلى أن حدثت خصوصمة بين متورعى الفقهاء وأهل اللغة، فأنكروا عليهم هذه الطريقة، وقالوا: إن فعلتم ذلك جعلتم الشعر أصلاً للقرآن، وقالوا: كيف يجوز أن يُحتج بالشعر على القرآن، وهو مذموم فى القرآن والحديث.
والحق أن هذه الخصومة التى جَدَّت فى الأجيال المتأخرة لم تقم على أساس، فالأمر ليس كما يزعمه أصحاب هذا الرأى، من جعل الشعر أصلاً للقرآن، بل هو فى الواقع، بيان للحرف الغريب من القرآن بالشعر، لأن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾، وقال: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾.. ولهذا لم يتحرج المفسرِّون إلى يومنا هذا من الرجوع إلى الشَعِّر الجاهلى للاستشهاد به على المعنى الذى يذهبون إلأيه فى فهم كلام الله تعالى.
* *
*الرواية عن ابن عباس ومبلغها من الصحة:
روُِى عن ابن عباس رضى الله عنه فى التفسير ما لا يُحصَى كثرة، وتعددت الروايات عنه، واختلفت طرقها، فلا تكاد تجد آية من كتاب الله تعالى إلا ولابن عباس رضى الله عنه فيها قول أو أقوال، الأمر الذى جعل نُقَّاد الأثر ورواة الحديث يقفون إزاء هذه الروايات التى جاوزت الحد وقفة المرتاب، فتتبعوا سلسلة الرواة فعدَّلوا العُدول، وجرَّحوا الضُعفاء، وكشفوا للناس عن مقدار هذه الروايات قوة وضعفاً. وأرى أن أسوق هنا أشهر الروايات عن ابن عباس، ثم أُبيِّن مبلغها من الصحة أو الضعف، لنعلم إلى أى حد وصل الوضع والاختلاق على ابن عباس رضى الله عنه. وهذه هى أشهر الطرق:
أولها: طريق معاوية بن صالح، عن علىّ بن أبى طلحة، عن ابن عباس، وهذه هى أجود الطرق عنه، وفيها قال الإمام أحمد رضى الله عنه: "إن بمصر صحيفة فى التفسير رواها علىّ بن أبى طلحة، لو رحل رجل فيها مصر قاصداً ما كان كثيراً". وقال الحافظ ابن حجر: "وهذه النسخة كانت عند أبى صالح كاتب الليث، رواها عن معاوية بن صالح، عن علىّ ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وهى عند البخارى عن أبى صالح، وقد اعتمد عليها فى صحيحه فيما يُعلِّقه عن ابن عباس".
وكثيراً ما اعتمد على هذه الطريق ابن جرير الطبرى، وابن أبى حاتم، وابن المنذر بوسائط بينهم وبين أبى صالح. ومسلم صاحب الصحيح وأصحاب السنن جميعاً يحتجون بعلىّ بن أبى طلحة.
* *
*طعن بعض النُقَّاد على هذه الطريق:
ولقد حاول بعض النُقَّاد أن يُقلل من قدر هذه الطريق فقال: "إن ابن أبى طلحة لم يسمع من ابن عباس التفسير، وإنما أخذه عن مجاهد أو سعيد ابن جبير" وعلى هذا فهى طريق منقطعة لا يُركَن إليها، ولا يُعوَّل عليها.
وقد استغل هذا القول الأستاذ "جولدزيهر" فى كتابه "المذاهب الإسلامية فى تفسير القرآن" فقال: "صرَّح النقدة المسلمون بأن ذلك الرجل - علىّ بن أبى طلحة - لم يسمع التفسير الذى تضمنه كتابه مباشرة من ابن عباس، وهذكا فإنه حتى فى صحة القسم الخاص بالتفسير الأكثر تصديقاً، يحكم النقدة المسلمون بهذا الحكم فيما يتعلق بصحة نسبته لابن عباس على أنه هو المصدر الأول له" اهـ.
* *
*تفنيد هذا الطعن:
ويظهر لنا أن الأستاذ "جولدزيهر"، جهل أو تجاهل ما رَدَّ به النقاد المعتبرون على هذا الظن الذى لا قيمة له، فقد فنَّد ابن حجر هذا النقد بقوله: "بعد أن عرفت الواسطة وهو ثقة فلا ضير فى ذلك".
وقال صاحب إيثار الحق: "وقال الذهبى فى الميزان: وقد روى - يعنى علىّ بن أبى طلحة عن ابن عباس تفسيراً كثيراً ممتعاً، والصحيح عندهم أن روايته عن مجاهد عن ابن عباس، وإن كان يرسلها عن ابن عباس فمجاهد ثقة يُقبل". وجملة القول: فهذه أصح الطرق فى التفسير عن ابن عباس، وكفى بتوثيق البخارى لها واعتماده عليها شاهداً على صحتها.


الصفحة التالية
Icon