هذا.. وقد نُسب إلى ابن عباس رضى الله عنه جزء كبير فى التفسير، وطُبع فى مصر مراراً باسم "تنوير المقياس من تفسير ابن عباس" جمعه أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروز آبادى الشافعى، صاحب القاموس المحيط، وقد اطلعتُ على هذا التفسير، فوجدتُ جامعة يسوق عند الكلام عن البسملة الرواية عن ابن عباس بهذا السند: "أخبرنا عبد الله الثقة بن المأمون الهروى، قال: أخبرنا أبى، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمود بن محمد الرازى، قال: أخبرنا عماربن عبد المجيد الهروى، قال: أخبرنا على بن إسحاق السمرقندى، عن محمد بن مروان، عن الكلبى، عن أبى صالح، عن ابن عباس".
وعند تفسير أول سورة البقرة، وجدته يسوق الكلام بإسناده إلى عبد الله ابن المبارك، قال: حدثنا علىّ بن إسحاق السمرقندى عن محمد بن مروان، عن الكلبى، عن أبى صالح، عن ابن عباس.
وفى مبدأ كل سورة يقول: وبإسناده عن ابن عباس.
... وهكذا يظهر لنا جلياً، أن جميع ما روى عن ابن عباس فى هذا الكتاب يدور على محمد بن مروان السدى الصغير، عن محمد بن السائب الكلبى، عن أبى صالح، عن ابن عباس، وقد عرفنا مبلغ رواية السدى الصغير عن الكلبى فيما تقدم. وحسبنا فى التعقيب على هذا ما روى من طريق ابن عبد الحكم قال: "سمعت الشافعى يقول: لم يثبت عن ابن عباس فى التفسير إلا شبيه بمائة حديث" وهذا الخبر - إن صح عن الشافعى - يدلنا على مقدار ما كان عليه الوضَّاعون من الجرأة على اختلاق هذه الكثرة من التفسير المنسوبة إلى ابن عباس، وليس أدل على ذلك، من أنك تلمس التناقض ظاهراً بين أقوال فى التفسير نسبت إلى ابن عباس ورويت عنه. وسيأتى - عند الكلام عن الوضع فى التفسير - أن هذا التفسير المنسوب إلى ابن عباس لم يفقد شيئاً من قيمته العلمية فى الغالب، وإنما الشئ الذى لا قيمة له فيه، هو نسبته إلى ابن عباس.
*أسباب الوضع على ابن عباس:
ويبدو أن السر فى كثرة الوضع على ابن عباس، هو أنه كان من بيت النبوة والوضع عليه يُكسب الموضوع ثقة وقوة أكثر مما لو وُضِع على غيره، أضف إلى ذلك ابن عباس كان من نسله الخلفاء العباسيون، وكان من الناس مَن يتزلف إليهم، ويتقرَّب منهم بما يرويه لهم عن جدهم... وسنعرض إلى أسباب الوضع فى التفسير، وإلى القيمة العلمية للتفسير الموضوع بصرف النظر عن وضعه، عند الكلام على منشأ الضعف فى رواية التفسير المأثور إن شاء الله تعالى.
* * *
٢ - عبد الله بن مسعود
* ترجمته:
هو عبد الله بن مسعود بن غافل، يصل نسبه إلى مُضَر، ويُكنَّى بأبى عبد الرحمن الهذلى، وأُمه أُم عبد بنت عبدود، من هذيل، وكان يُنسب إليها أحياناً فيقال ابن أم عبد. كان رحمه الله خفيف اللحم، قصيراً، شديد الأُمْمة، أسلم قديماً. روى الأعمش، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: قال عبد الله - يعنى ابن مسعود - :"لقد رأيتنى سادس ستة ما على ظهر الأرض مسلماً غيرنا" وهو أول مَن ظهر بالقرآن بمكة وأسمعه قريشاً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأُوذى فى الله من أجل ذلك، ولما أسلم عبد الله ابن مسعود أخذه رسول الله ﷺ إليه فكان يخدمه فى أكثر شئونه، وهو صاحب طهوره وسواكه ونعله، يلبسه إياه إذا قام، ويخلعه ويحمله فى ذراعه إذا جلس، ويمشى أمامه إذا سار، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، ويلج عليه داره بلا حجاب، حتى لقد ظنه أبو موسى الأشعرى رضى الله عنه من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففى البخارى ومسلم عن أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه قال: "قدمت أنا وأخى من اليمن فمكثنا حيناً لا نرى ابن مسعود وأًمه إلا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما نرى من كثرة دخوله ودخول أُمه على رسول الله ﷺ ولزومه له". وهاجر إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وصلى إلى القِبْلتين، وشهد بدراً، وأُحُداً، والخندق، وبيعة الرضوان، وسائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد اليرموك بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو الذى أجهز على أبى جهل يوم بدر، وقد شهد له رسول الله ﷺ بالجنة وشهد له بالفضل وعلو المنزلة، يدل على ذلك ما أخرجه الإمام أحمد فى مسنده عن علىّ قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "لو كنتُ مؤمِّراً أحداً دون مشورة المؤمنين لأمِّرْتُ ابن أُم عبد". وقد ولى بيت المال بالكوفة لعمر وعثمان، وقدم المدينة فى آخر عمره، ومات بها سنة اثنتين وثلاثين، ودفُن بالبقيع ليلاً، تنفيذاً لوصيته بذلك، وكان عمره يوم وفاته، بضعاً وستين سنة.
* *
* مبلغة من العلم: