فمن القرآن، قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾.
ومن السُّنَّة، ما رواه أبو داود عن المقدام بن معد يكرب، عن رسول الله ﷺ أنه قال: "ألا وإنى أوتيتُ الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحِلُّوه، وما وجدتم فيه من حرام فَحرِّموه، إلا لا يحل لكم الحمار الأهلى، ولا كل ذى ناب من السباع، ولا لقطة معاهد، إلا أن يستغنى عنها صاحبها، ومَن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قِراه".
فقوله: "أوتيتُ الكتاب ومثله معه" معناه أنه أوتى الكتاب وحياً يُتلَى، وأُوتى من البيان مثله، أى أُذنَ له أن يبُيِّن ما فى الكتاب. فيعم ويخص، ويزيد عليه ويُشرِّع ما فى الكتاب، فيكون فى وجوب العمل به ولزوم قبوله كالظاهر المتلو من القرآن. ويحتمل وجهاً آخر: وهو أنه أُوتى من الوحى الباطن عن المتلو، مثل ما أعطى من الظاهر المتلو، كما قال تعالى فى سورة النجم آيتى [٣، ٤]: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾..
وأما قوله: "يوشك رجل شبعان.." إلخ، فالمقصود منه التحذير من مخالفة السُّنَّة التى سنَّها الرسول وليس لها ذكر فى القرآن، كما هو مذهب الخوارج والروافض الذين تعلَّقوا بظاهر القرآن وتركوا السنن التى ضمنت بيان الكتاب فتحيَّروا وضلُّوا، وروى الأوزاعى عن حسان بن عطية قال: "كان الوحى ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحضره جبريل بالسُّنَّة التى تفسِّر ذلك"، وروى الاوزاعى عن مكحول قال: "القرآن أحوج إلى السُّنَّة من السُّنَّة إلى القرآن".
* *
*أوجه بيان السُّنَّة للكتاب:
وإذ قد اتضح لنا من الآية والحديث والآثار مقدار ارتباط السُّنَّة بالكتاب، ارتباط المبيِّن فلنبُيِّن بعد ذلك أوجه هذا البيان فنقول:
الوجه الأول: بيان المجمل فى القرآن، وتوضيح المشكل، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، فمن الأول: بيانه عليه الصلاة والسلام لمواقيت الصلوات الخمس، وعدد ركعاتها، وكيفيتها، وبيانه لمقادير الزكاة، وأوقاتها، وأنواعها، وبيانه لمناسك الحج. ولذا قال: "خذوا عنى مناسككم"، وقال: "صلُّوا كما رأيتمونى أُصلِّى".
وقد روى ابن المبارك عن عمران بن حصين أنه قال لرجل: "إنك أحمق، أتجد الظُهر فى كتاب الله أربعاص لا يُجهَر فيها بالقراءة؟ ثم عدَّد عليه الصلاة، والزكاة، ونحو ذلك، ثم قال: أتجد هذا فى كتاب الله تعالى مُفسَّراً؟ إن كتاب الله تعالى أبهم هذا، وإن السُّنَّة تُفسِّر هذا".
ومن الثانى: تفسيره - ﷺ - للخيط الأبيض والخيط الأسود فى قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ بأنه بياض النهار وسواد الليل.
ومن الثالث: تخصيصه - ﷺ - الظلم فى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُو؟اْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ بالشرك، فإن بعض الصحابة فهم أَن الظلم مراد منه العموم، حتى قال: وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "ليس بذلك، إنما هو الشرك".
ومن الرابع: تقييده اليد فى قوله تعالى: ﴿فَاقْطَعُو؟اْ أَيْدِيَهُمَا﴾ باليمين.
الوجه الثانى: بيان معنى لفظ أو متعلقة، كبيان: ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم﴾ باليهود، و ﴿الضَّآلِّينَ﴾ بالنصارى. وكبيان قوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ﴾ بأنها مُطهَّرة من الحيض والبزاق والنخامة، وكبيان قوله تعالى: ﴿وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ بأنهم دخلوا يزحفون على أستاهم وقالوا: حبة فى شعيرة.
الوجه الثالث: بيان أحكام زائدة على ما جاء فى القرآن الكريم، كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وصدقة الفطر، ورجم الزانى المحصن، وميراث الجدة، والحكم بشاهد ويمين، وغير هذا كثير يوجد فى كتب الفروع.
الوجه الرابع: بيان النسخ: كأن يُبيِّن رسول الله ﷺ أن آية كذا نُسِخَت بكذا، أو أن حكم كذا نُسِخ بكذا، فقوله عليه الصلاة والسلام: " لا وصية لوارث" بيان منه أن آية الوصية للوالدين والأقربين منسوخ حكمهها وإن بقيت تلاوتها. وحديث: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" بيان منه أيضاً لنسخ حكم الآية [١٥] من سورة النساء: ﴿وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ﴾.. وغير هذا كثير.