ولقد كان من أثر هذا الرأى فى القرآن، أن اشتد حرص هؤلاء القائلين به على أن يعقدوا صلة بين المعانى الظاهرة والمعانى الباطنة للقرآن، ويعملوا بكل ما فى وسعهم وطاقتهم على إيجاد مناسبة بينهما حتى يُقرِّبوا هذا المبدأ من عقول الناس ويجعلوه أمراً سائغاً مقبولاً. ومن أمثلة هذا التوفيق والربط بين ظاهر القرآن وباطنه، قوله تعالى فى الآية [١٥] من سورة محمد عليه السلام: ﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾.. فهم يقرون أن هذا الظاهر مراد الله تعالى، ومراد له مع هذا الظاهر معنى آخر باطنى هو علوم الأئمة عليهم السلام، ويقولون: إن الجامع بين المعنيين هو الانتفاع بكل منهما وبمثل هذا يوفقون بين المعانى الظاهرة والباطنة، حتى لا يكون مستبعداً إرادة الله لمعنى خاص حسب ما يدل عليه ظاهر اللفظ، وإرادته لمعنى آخر بحسب ما يدل عليه باطن الأمر.
* *
* حملهم الناس على التسليم بما يدَّعون من المعانى الباطنة للقرآن:
وكأنِّى بالإمامية الإثنا عشرية بعد أن ربطوا بين ظاهر القرآن وباطنه، وجمعوا بينهما بجامع التناسب والتشابه.. كأنَّى بهم يعتقدون أن مثل هذا الربط لا يكفى فى حمل الناس على أن يذهبوا مذهبهم هذا، فحاولوا أن يحملوهم عليه من ناحية العقيدة والإرهاب الدينى، الذى يشبه الإرهاب الكَنَسى للعامة فى العصور المظلمة، من حمل الناس على ما يوحون به إليهم بعد أن حظروا عليهم إعمال العقل، وحالوا بينهم وبين حريتهم الفكرية، فقالوا: إن الإنسان يجب عليه أن يؤمن بظاهر القرآن وباطنه على السواء، كما يجب عليه أن يؤمن بمحكمه ومتشابه، وناسخه ومنسوخه، ولا بد أن يكون ذلك على سبيل التفصيل إن وصل إلأيه علم ذلك مفصَّلاً عن آل البيت، ويكفى فيه الإجمال إن لم يصل إليه التفصيل. قالوا: ولا يجوز أن ينكر الباطن بحال، وعليه أن يُسَلِّمْ بكل ما وصل إليه من ذلك عن طريق آل البيت وإن لم يفهم معناه، ولو أن إنساناً آمن بالظاهر وأنكر الباطن لكفر بذلك، كما لو أنكر الظاهر وآمن بالباطن أو الظاهر والباطن جميعاً.
وحرصاً منهم على تعطيل عقول الناس ومنعهم من النظر الحر فى نصوص القرآن الكريم، قالوا: إن جميع معانى القرآن، سواء منها ما يتعلق بالظاهر وما يتعلق بالباطن، اختص بها النبى ﷺ والأئمة من بعده، فهم الذين عندهم علم الكتاب كله، لأن القرآن نزل فى بيتهم "وأهل البيت أدرى بما فى البيت". أما مَن عداهم من الناس فلا يرون أدنى شبهة فى قصور علمهم، وعدم إدراكه لكثير من معانى القرآن الظاهرة، فضلاً عن معانيه الباطنة، قالوا: ولهذا لا يجوز لإنسان أن يقول فى القرآن إلا بما وصل إليه من طريقهم، غاية الأمر أنهم جوَّزوا لمن أخلص حبه وانقياده لله ولرسوله ولأهل البيت، واستمد علومه من أهل البيت حتى آنس من نفسه العلم والمعرفة.. جوَّزوا لمثل هذا أن يستنبط من القرآن ما يتيسر له، لأنه بحبه لآل البيت وأخذه عنهم صار كأنه منهم، وقد قيل: "سلمان منا آل البيت".
* * *
* أثر التفسير الباطنى فى تلاعبهم بنصوص القرآن:
ولقد كان من نتائج هذا التفسير الباطنى للقرآن أن وجد القائلون به أمام أفكارهم مضطرباً بالغاً ومجالاً رحباً، يتسع لكل ما يشاؤه الهوى وتزينه لهم العقيدة، فأخذوا يتصرَّفون فى القرآن كما يحبون، وعلى أى وجه يشتهون، بعد ما ظنوا أن العامة قد انخدعت بأوهامهم وسلَّموا بأفكارهم ومبادئهم.
فقالوا - مثلاً - إنَّ من لطف الله تعالى أن يشير بواسطة المعانى الباطنة لبعض الآيات إلى ما سيحدث فى المستقبل من حوادث، ويعدون هذا من وجوه إعجازه، ثم يُفرِّعون على هذه القاعدة ما يشاؤه لهم الهوى، وما يزينه فى أعينهم داعى العقيدة وسلطانها، فيقولون مثلاً فى قوله تعالى فى الآية [٩] من سورة الانشقاق: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ﴾: إنه إشارة إلى أن هذه الأُمة ستسلك سبيل من كان قبلها من الأُمم فى الغدر بالأوصياء بعد الأنبياء.
كذلك مكَّن لهم القول بباطن القول من أن يقولوا: إن اللَّفظ الذى يراد به العموم ظاهراً، كثيراً ما يراد به الخصوص بحسب المعنى الباطن، فمثلاً لفظ "الكافرون" الذى يُراد به العموم، يقولون: هو فى الباطن مخصوص بمن كفر بولاية علىّ. كما مكَّنهم أيضاً من أن يصرفوا الخطاب الذى هو موجَّه فى الظاهر إلى الأُمم السابقة أو إلى أفراد منها، إلى مَن يصدق عليه الخطاب فى نظرهم من هذه الأُمة بحسب الباطن، فمثلاً قوله تعالى فى الآية [١٥٩] من سورة الأعراف: ﴿وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾.. يقولون فيه: قوم موسى فى الباطن هم أهل الإسلام.