ولقد مكَّنهم أيضاً من أن يتركوا أحياناً المعنى الظاهر ويقولوا بالباطن وحده، كما فى قوله تعالى فى الآيتين [٧٤ - ٧٥] من سورة الإسراء: ﴿وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً﴾.. فالظاهر غير مراد عندهم، ويقولون: عنى بذلك غير النبى، لأن مثل هذا لا يليق أن يكون موجهاً للنبى عليه الصلاة والسلام، وإنما هو معنى به من قد مضى، أو هو من باب: "إياك أعنى واسمعى يا جارة".
كذلك مكَّنهم هذا المبدأ من إرجاع الضمير إلى ما يسبق له ذكر، كما فى قوله تعالى فى الآية [١٥] من سورة يونس: ﴿قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَاذَآ أَوْ بَدِّلْهُ﴾.. حيث يفسرون "أو بَدِّلُه" بمعنى أو بدِّل علياً. ؟ ومعلوم أن علياً لم يسبق له ذكر، ولم يكن الكلام مسوقاً فى شأن خلافته وولايته.
ومما ساغ لهم أن يقولوه بعد تقريرهم لمبدأ القول بالباطن: أن تأويل الآيات القرآنية لا يجرى على أهل زمان واحد، بل عندهم أن كل فقرة من فقرات القرآن لها تأويل يجرى فى كل آن، وعلى أهل كل زمان، فمعانى القرآن على هذا متجددة. حسب تجدد الأزمنة وما يكون فيها من حوادث. بل وساغ لهم ما هو أكثر من ذلك فقالوا: إن الآية الواحدة لها تأويلات كثيرة مختلفة متناقضة، وقالوا: إن الآية الواحدة يجوز أن يكون أولها فى شئ وآخرها فى شئ آخر.. ولا شك أن باب التأويل الباطنى باب واسع يمكن لكل من ولجه أن يصل منه إلى كل ما يدور بخلده ويجيش بخاطره. وليس القائل أن يقول: إن رسول الله ﷺ صرَّح بأن للقرآن باطناً، وأن المفسِّرين جميعاً يعترفون بذلك ويقولون به، فكيف توجه اللوم إلى الإمامية وحدهم؟ ليس لقائل أن يقول ذلك، لأن الباطن الذى أشار إيه الحديث وقال به جمهور المفسِّرين، هو عبارة عن التأويل الذى يحتمله اللفظ القرآنى، ويمكن أن يكون من مدلولاته. أما الباطن الذى يقول به الشيعة فشئ يتفق مع أذواقهم ومشاربهم، وليس فى اللفظ القرآنى الكريم ما يدل عليه ولو بالإشارة.
* *
* مخلصهم من تناقش أقوالهم فى التفسير:
ثم إن الإمامية الإثنا عشرية، أحسوا بخطر موقفهم وتحرجه عندما جوَّزوا أن يكون للآية الواحدة أكثر من تفسير واحد مع التناقض والاختلاف بين هذه التفاسير. فأخذوا يموِّهون على العامة ويضللونهم، فقرروا من المبادئ ما أوجبوا الاعتقاد به أولاً على الناس ليصلوا بعد ذلك إلى مخلص يتخلصون به من هذا المأزق الحرج، فكان من هذه المبادئ التى قررها وأوجبوا الاعتقاد بها ما يأتى:
أولاً: أن الإمام مفوَّض من قِبَلِ الله فى تفسير القرآن.
ثانياً: أنه مفوَّض فى سياسة الأُمة.
ثالثاً: التقية.
وكل واحد من هذه الثلاثة يمكن أن يكون مخلصاً للخروج من هذا التناقض الذى وقع فى تفاسيرهم التى يروونها عن أئمتهم، فكون الإمام مفوَّضاً من قِبَلِ الله فى تفسير القرآن مخلص لهم، لأن باب التفويض واسع. وكونه مفوَّضاً فى سياسة الأُمة مخلص أيضاً، لأن الإمام أعلم بالتنزيل والتأويل، وأعلم بما فيه صلاح السائل والسامع، فهو يجيب كل إنسان على حسب ما يرى فيه صلاح حاله، والقول بالتقية مخلص أوسع من سابقيه، لأن الإمام له أن يسكت ولا يجيب، تقية منه. "قيل عند الباقر: إن الحسن البصرى يزعم أن الذين يكتمون العلم تؤذى ريح بطونهم أهل النار، فقال الباقر: فهلك إذن مؤمن آل فرعون، ما زال العلم مكتوماً منذ بعث الله نوحاً، فليذهب الحسن يميناً وشمالاً، لا يوجد العلم إلا ههنا.. وأشار إلى صدره".
وللإمام أن يجيب بحسب الأحوال ما يرى فيه المصلحة.. تقية منه أيضاً وبنوا على هذا "أن الإمام إن قال قولاً على سبيل التقية، فللشيعى أن يأخذ به ويعمل بما قاله الإمام إن لم يتنبه الشيعى إلى أن قول الإمام كن على سبيل التقية".
ونحن لا نظن أن الأئمة كانوا يلجأون إلى هذه التقية.. تقية الخداع فى الأخبار، والنفاق فى الأحكام، وإنما هى تمحلات يتمحلونها، ليُخلِّصوا بها أنفسهم من هذا الارتباك الذى وقعوا فيه.
* *