ومن هذه الروايات ما نقله عن كتاب العلل بإسناده إلى أبى حكيم الزاهد قال: حدثنى أبو عبد الله بمكة قال: "بينما أمير المؤمنين عليه السلام مار بفناء الكعبة إذ نظر إلى رجل يصلى فاستحسن صلاته، فقال: يا هذا الرجل؛ إن الله تبارك وتعالى ما بعث نبيه ﷺ بأمر من الأمور إلا وله متشابه وتأويل وتنزيل، وكل ذلك على التعبد، فمَن لم يعرف تأويل صلاته فصلاته كلها خداج ناقصة غير تامة". ثم عقب المولى على هذا فقال: "الظاهر أن المراد المتشابه الشبيه، وبالتأيول الباطن، وبالتنزيل الظاهر، وبالتعبد سبيل الإطاعة، والمعنى: أن كل ما جاء به النبى ﷺ وأمر به الظاهر فله شبيه ونظير مأمور به فى الباطن، ويلزم الإيمان بهما جميعاً، فمَن لم يعرف شبيه الصلاة وباطنها الذى هو الإمام وإطاعته - كما سيأتى - فصلاته الظاهرية ناقصة" (ص ٣ - ٤).
وعند الفصل الثانى فى ذكر الأخبار الصريحة فى أن بطن القرآن وتأويله، إنما - هو بالنسبة إلى الأئمة - وولايتهم وأتباعهم وما يتعلق بذلك، فكان من جملة الأخبار التى ساقها: ما رواه الكلينى بإسناده إلى أبى بصير قال: "قال الصادق عليه السلام: يا أيا محمد؛ ما من آية تقود إلى الجنة ويُذكر أهلها بخير إلا وهى فينا وفى شعيتنا، وما من آية نزلت يُذكر أهلها بشر وتسوق إلى النار إلا وهى فى عدونا ومَن خالفنا". وما نقله عن الكافى وتفسير العياشى وغيرهما، عن محمد بن ميمون، عن الكاظم عليه السلام فى قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾.. قال: القرآن له ظهر وبطن، فجميع ما حرَّم الله فى الكتاب هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الجور، وجميع ما أحَلَّ الله فى الكتاب هو الظاهر، والباطن من ذلك أمئة الحق.
وما رواه عن الباقر عليه السلام قال: قال النبى ﷺ فى خطبته يوم الغدير: "معاشر الناس؛ هذا علىّ أحقكم بى، وأقربكم إلىّ، والله أنا عنه راضيان، وما نزلت آية رضا إلا فيه، وما خاطب الذين آمنوا إلا بدأ به، وما نزلت آية مدح فى القرآن إلا فيه. معاشر الناس؛ إن فضائل علىّ عند الله عَزّ وجَلَّ، وقد أنزلها علىّ فى القرآن أكثر من أن أحصيها فى مكان واحد، فمن نبأكم بها وعرفها فصدِّقوه". وما رواه عن عبد الله بن سنان أنه قال: قال ذريح المحاربى: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ﴾. فقال: المراد لقاء الإمام، فأتيت أبا عبد الله عليه السلام وقلت له: جُعِلتُ فداك، قوله عزَّ وجَلَّ: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ﴾.. قال: أخذ الشارب، وقص الأظافر، وما أشبه ذلك. فحكيت له كلام ذريح فقال: صدق ذريح وصدقت، إن للقرآن ظاهراً وباطناً ومَن يحتمل ما يحتمل ذريح؟ ثم عقَّب المولى على هذا فقال: "الكلام من الإمام عليه السلام صريح فى أنهم عليهم السلام كانوا يكتمون أمثال هذه التأويلات عن أكثر الناس، حتى عن ابن سنان الذى كان من فضلاء أصحابه" (ص ٥).
وعقد الفصل الثالث فى بيان نبذ مما يدل على وجوه تناسب الظواهر مع البطون، وجهات تشابه أهل التأويل مع أهل التنزيل فقال: "اعلم أن ما دلَّت عليه الأخبار الماضية، وما تدل عليه الأخبار التى ستأتى من المعانى الباطنة والتأويلات. ليست جملتها مما استعمل فيها اللفظ على سبيل الحقيقة، بل أكثرها ومعظمها على طريق التجوًُّز، ونهج الاستعارة، وسبيل الكناية ومن قبيل المجازات اللُّغوية والعقلية، إذ أبواب التجوُّز فى كلام العرب واسعة ومواردة فى عبارات الفصحاء سائغة، فلا استبعاد إن أراد الله عَزَّ وجَلَّ بحسب الاستعمال الذى يدل عليه ظاهر اللفظ معنى، وبحسب التجوُّز الذى تدل عليه القرائن ويجتمع مع الظاهر بنوع من التناسب معنى آخر، وسنشير إلى كثير من وجوه التناسب فى المقدمة الثالثة وغيرها، ولكن نذكر فى هذا المقام من كليات تلك الوجوه بعض ما يُستفاد من أخبار الأئمة الأطياب، ونرفع عن وجوه الآيات لطالب تأويلها الحجاب، ونكشف عنها النقاب، تبصرة لمن أراد التبصر من أُولى الألباب. وأما إحاطة العلم بالجميع، فهى للراسخين فى العلم ومَن عنده علم الكتاب... كما سيظهر فى الفصل الآخير.
فاعلم أنه يمكن تبيين المرام فى هذا المقام من وجوه وإن أمكن إرجاع بعضها إلى بعض، ثم ساق وجوهاً خمسة يرجع بعضها إلى بعض كما قال، فكان مما ذكره فى الوجه الرابع ما جاء فى البصائر عن نصر بن قابوس قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله عَزَّ وجَلَّ: ﴿وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ * وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ﴾ قال: يا نصر؛ إنه ليس حيث يذهب الناس، وإنما هو العالِم وما يخرّج منه.


الصفحة التالية
Icon