*ولقد عجبت إلى هوازن أن أصبحت * منى تلوذ ببطن أم جرير*
فعدى "عجبت" بـ "إلى" لأن المعنى نظرت.
وثانيها: أن معناه: مؤملة لتجديد الكرامة، كما يقال: عينى ممدودة إلى الله تعالى وإلى فلان، وأنا شاخص الطرف إلى فلان.. ، ولما كانت العيون بعض أجزاء الوجوه أضيف الذى يقع بالعين إليها.. عن أبى مسلم.
وثالثها: أن المعنى: أنهم قطعوا آمالهم وأطماعهم عن كل شئ سوى الله، ورجوه دون غيره، فكن سبحانه عن الطمع بالنظر، ألا ترى أن الرعية تتوقع نظر السلطان وتطمع فى إفضاله عليها وإسعافه فى حوائجها، فنظر الناس مختلف: فناظر إلى السلطان، وناظر إلى تجارة، وناظر إلى زراعة، وناظر إلى ربه يؤمله.. وهذه الأقوال متقاربة فى المعنى، وعلى هذا فإن هذا الانتظار متى يكون؟ فقيل: إنه بعد الاستقرار فى الجنَّة، وقيل: إنه قبل استقرار الخلق فى الجنة والنار، فكل فريق ينتظر ما هو له أهل.. وهذا اختيار القاضى عبد الجبار - وذكر جمهور أهل العدل أن النظر يجوز أن يُحمل على المعنيين جميعاً، ولا مانع لنا من حمله على الوجهين، فكأنه سبحانه أراد أنهم ينظرون إلى الثواب المُعَد لهم فى الحال من أنواع النعيم، وينتظرون أمثالها حالاً بعد حال ليتم لهم ما يستحقون من الإجلال، ويُسئل على هذا فيقال: إذا كان بمعنى النظر بالعين حقيقة وبمعنى الانتظار مجازاً فكيف يُحمل عليهما؟ والجواب: أن عند أكثر المتكلمين فى أصول الفقه يجوز أن يرادا بلفظ واحد إذ لا تنافى بينهما.. وهو اختيار المرتضى قدَّس الله روحه، ولَمْ يجوزِّ ذلك أبو هاشم إلا إذ تكلم به مرتين: مرة يريد النظر، ومرة يريد الانتظار. وأما قولهم: المنتظر لا يكون نعيمة خالصاً فكيف يوصف أهل الجنَّة بالانتظار؟ فالجواب لعنه: أن مَن ينتظر شيئاً لا يحتاج إليه فى الحال وهو واثق بوصوله إليه عند حاجته فإنه لا يهتم بذلك ولا ينقص سروره به، بل ذلك زايد فى نعيمه، وإنما يحلق الهم المنتظر إذا كان يحتاج إلى ما ينتظره فى الحال ويلحقه بفوته مضرَّة وهو غير واثق بالوصول إليه. وقد قيل فى إضافة النظر إلى الوجوه: إن الغم والسرور إنما يظهران فى الوجوه، فبيَّن الله سبحانه أن المؤمن إذا ورد يوم القيامة تهلل وجهه، وأن الكافر يخاف مغبة أفعاله القبيحة فيكلح وجهه.."
* *
السحر:
والطبرسى ينكر حقيقة السحر ولا يقول به، ويخالف جمهور أهل السُّنَّة فى ذلك، ويرد أدلتهم، وينكر حديث البخارى فى سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا نراه فى آخر تفسيره لقوله تعالى للآية [١٠٢] من سورة البقرة: ﴿وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾... الآية، يقول ما نصه: ".. واختُلِف فى ما هية السحر على أقوال:
فقيل: إنه ضرب من التخييل وصنعة لطيفة من الصنائع، وقد أمر الله تعالى بالتعوذ منه وجعل التحرز منه بكتابة وقاية منه، وأنزل فيه سورة الفلق.. وهو قول الشيخ المفيد أبى عبد الله من أصحابنا.
وقيل: إنه خدع ومخاريق وتمويهات لا حقيقة لها، تخيل إلى المسحور لها حقيقة. وقيل: إنه يمكن الساحر أن يقلب الإنسان حماراً ويقلبه من صورة إلى صورة، وينشئ الحيوان على وجه الاختراع. وهو لا يجوز، ومن صدَّق به فهو لا يعرف النبوة، ولا يأمن من أن تكون معجزات الأنبياء من هذا النوع، ولو أن الساحر والمعزم قدرا على نفع أو ضرر، وعلما الغيب لقدرا على إزالة الممالك واستخراج الكنوز من معادنها والغلبة على البلدان بقتل الملوك من غير أن ينالهم مكروه وضرر، فلما رأيناهم أسوأ الناس حالاً وأكثرهم مكيدة واحتيالاً. علمنا أنهم لا يقدرون على شئ من ذلك. فأما ما روى من الأخبار أن النبى ﷺ سُحر فكان يرى أنه فعل ما لم يفعله أو أنه لم يفعل ما فعله فأخبار مفتعلة لا يُلتفت إليها، وقد قال الله حكاية عن الكفار: ﴿إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً﴾. فلو كان السحر عمل فيه لكان الكفار صادقين فى مقالهم، حاشا للنبى من كل صفة نقص تنفر عن قبول قوله، فإنه حُجَّة الله على خلقه وصفوته على بريته.."
* *
* الشفاعة:
هذا.. ولا يلتزم الطبرسى القول بكل معتقدات المعتزلة، بل نراه يخالفهم فى كثير من الأحيان، ويرد عليهم معتقداتهم، ويجادلهم فيها جدالاً عنيفاً قوياً.


الصفحة التالية
Icon