بدأ ذلك أولاً على هيئة محاولات فهم شخص، وترجيح لبعض الأقوال على بعض، وكان هذا أمراً مقوبلاً ما دام يرجع الجانب العقلى منه إلى حدود اللغة ودلالة الكلمات القرآنية. ثم ظلت محاولات هذا الفهم الشخصى تزداد وتتضخم، متأثرة بالمعارف المختلفة، والعلوم المتنوعة، والآراء المتشعبة، والعقائد المتباينة، حتى وُجِد من كتب التفسير ما يجمع أشياء كثيرة، لا تكاد تتصل بالتفسير إلا عن بُعْدٍ عظيم.
دُوِّنت علوم اللغة، ودُوَّن النحو الصرف، وتشعبَّت مذاهب الخلاف الفقهى، وأثيرت مسائل الكلام، وظهر التعصب المذهبى قائماً على قدمه وساقه فى العصر العباسى، وقامت الفِرَق الإسلامية بنشر مذاهبها والدعوة إليها، وتُرجمت كتب كثيرة من كتب الفلاسفة، فامتزجت كل هذه العلوم وما يتعلق بها من أبحاث بالتفسير حتى طغت عليه، وغلب الجانب العقلى على الجانب النقلى، وصار أظهر شئ فى هذه الكتب، هو الناحية العقلية، وإن كانت لا تخلو مع ذلك من منقول يتصل بأسباب النزول، أو بغير ذلك على المأثور.
وهكذا تدرج التفسير، واتجهت الكتب المؤلَّفة فيه اتجاهات متنوعة، وتحكَّمت الاصطلاحات العلمية، والعقائد المذهبية فى عبارات القرآن الكريم، فظهرت آثار الثقافة الفلسفية والعلمية للمسلمين فى تفسير القرآن، كما ظهرت آثار التصوف واضحة فيه، وكما ظهرت آثار النِحَل والأهواء فيه ظهوراً جلياً.
وإنَّا لنلحظ فى وضوح وجلاء: أن كل مَن برع فى فن من فنون العلم، يكاد يقتصر تفسيره على الفن الذى برع فيه، فالنحوى تراه لا هَمَّ له إلا الإعراب وذكر ما يحتمل فى ذلك من أوجه، وتراه ينقل مسائل النحو وفروعه وخلافياته، وذلك كالزَجَّاج، والواحدى فى "البسيط"، وأبى حيان فى "البحر المحيط".
وصاحب العلوم العقلية، تراه يعنى فى تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة، كما تراه يعنى بذكر شبُههم والرد عليهم، وذلك كالفخر الرازى فى كتابه "مفاتيح الغيب".
وصاحب الفقه تراه قد عنى بتقريره الأدلة للفروع الفقهية، والرد على مَن يخالف مذهبه، وذلك كالجصَّاص، والقرطبى..
وصاحب التاريخ، ليس له شغل إلا القصص، وذكر أخبار مَن سَلَف، ما صح منها وما لا يصح، وذلك كالثعلبى والخازن..
وصاحب البدع، ليس له قصد إلأا أن يُؤوِّل كلام الله ويُنزله على مذهبه الفاسد، وذلك كالرمانى، والجبائى، والقاضى عبد الجبار، والزمخشرى من المعتزلة، والطبرسى، وملا محسن الكاشى من الإمامية الإثنا عشرية.
وأصحاب التصوف قصدوا إلى ناحية الترغيب والترهيب. واستخراج المعانى الإشارية من الآيات القرآنية بما يتفق مع مشاربهم، ويتناسب مع رياضاتهم وموادجيدهم، ومن هؤلاء ابن عربى، وأبو عبد الرحمن السلمى..
وهكذا فسَّر كل صاحب فن أو مذهب بما يتناسب مع فنه أو يشهد لمذهبه، وقد استمرت هذه النزعة العلمية العقلية وراجت فى بعض العصور رواجاً عظيماً، كما راجت فى عصرنا الحاضر تفسيرات يريد أهلها من ورائها أن يُحَمِّّلوا آيات القرآن كل العلوم، ما ظهر منها وما لم يظهر، كأن هذا فيما يبدو وجه من وجوه إعجاز القرآن وصلاحيته لأن يتمشى مع الزمن. وفى الحق أن هذا غلو منهم، وإسراف يُخرج القرآن عن مقصده الذى نزل من أجله، ويحيد به عن هدفه الذى يرمى إليه.
وسوف نتكلم على ذلك بتوسع عند الكلام عن التفسير العلمى إن شاء الله تعالى.
ثم إن هذا الطغيان العقلى العلمى، لم يطغ على التفسير بالمأثور الطغيان الذى يجعله فى عداد ما درس وذهب، بل وُجِد من العلماء فى عصور مختلفة، مَن استطاع أن يقاوم تيار هذا الطغيان، ففسَّر القرآن تفسيراً نقلياً بحتاً، على توسع منهم فى النقل، وعدم تفرقة بين ما صح وما لم يصح، كما فعل السيوطى فى كتابه "الدر المنثور".
* *
* التفسير الموضوعى:
وكذلك وُجِد مِنَ العلماء مَن ضيَّق دائرة البحث فى التفسير، فتكلَّم عن ناحية واحدة من نَواحيه المتشعبة المتعددة، فابن القيم - مثلاً - أفرد كتاباً من مؤلفاته للكلام عن أقسام القرآن سماه "التبيان فى أقسام القرآن". وأبو عبيدة أفرد كتاباً للكلام عن مجاز القرآن والراغب الأصفهانى أفرد كتاباً فى مفردات القرآن. وأبو جعفر النحاس أفرد كتاباً فى الناسخ والمنسوخ من القرآن. وأبو الحسن الواحدى أفرد كتاباً فى أسباب نزول القرآن. والجصاص أفرد كتاباً فى أحكام القرآن.. وغير هؤلاء كثير من العلماء الذين قصدوا إلى موضوع خاص فى القرآن يجمعون ما تفرَّق منه، ويفردونه بالدرس والبحث.
* توسع متقدمى المفسرين قد بمتأخريهم عن البحث المستقل: