( مسلك ابن سينا فى التفسير )
ابن سينا كمسلم يدين بالقرآن، وفيلسوف محب للفلسفة حريص على سلامة ما فيها من آراء، كان حريصاً كل الحرص على أن يوفق بين الدين والفلسفة، حتى يُرضى ناحيته الدينية والفلسفية. وكان طبيعياً - والقرآن هو الدعامة الأولى من دعام الإسلام - أن يوفق ابن سينا بين نصوص القرآن والنظريات الفلسفية التى تبدو معارضة لها، وفعلاً قام بهذه العملية التى كانت - فيا أعتقد - شراً على الدين، وإبطالاً لحقائق القرآن الصريحة الثابتة.
نظر ابن سينا إلى القرآن، ونظر إلى الفلسفة، فحكَّم النظريات الفلسفية فى النصوص القرآنية، فشرحها شرحاً فلسفياً بحتاً، وكانت طريقته التى يسلكها فى شرحه غالباً هى شرح الحقائق الدينية بالآراء الفلسفية، وذلك لأنه كان يعتقد أن القرآن ما هو إلا رموز رمز بها النبى ﷺ لحقائق تدق على أفهام العامة، عجزت أفهامهم عن إدراكها، فرمز إليها النبى بما يمكنهم أن يدركوه، وأخفى عنهم ما يعجز عن إدراكه عامة الناس إلا الخواص منهم، وهو يقول: "إن المشترك على النبى أن يكون كلامه رمزاً، وألفاظه إيماءً، وكما يذكر أفلاطون فى كتاب النوامس: إنَّ مَن لم يقف على معانى رموز الرسل لم ينل الملكوت الإلهى، وكذلك أجِلَّة فلاسفة يونان وأنبياؤهم كانوا يستعملون فى كتبهم الرموز والإشارات، التى حشوا فيها أسرارهم، كفيثاغورس وسقراط وأفلاطون.. وما كان يمكن النبى محمداً ﷺ أن يوقف على العلم أعرابياً جافياً، ولا سيما البَشر كلهم، إذ كان مبعوثاً إليهم كلهم".
وعلى هذا الأساس نظر ابن سينا إلى نصوص القرآن كرموز لا يعرف حقيقتها إلا الخواص أمثاله، ففسَّرها تفسيراً حكَّم فيه ما لديه من نظريات فلسفية، فكان فى عمله هذا فاشلاً، وبعيداً عن حقيقة الدين، وروح القرآن الكريم.
وإليك بعض ما قاله ابن سينا فى بعض نصوص القرآن الكريم، لتقف على مقدار تهافته، وبُعْده عن حقائق القرآن الثابتة:
عرض ابن سينا لشرح قوله تعالى فى الآية [١٧] من سورة الحاقة: ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾.. ففسَّر العرش بأنه الفلك التاسع الذى هو فلك الأفلاك، وفسَّر الملائكة الثمانية التى تحمل العرش بأنها الأفلاك الثمانية التى تحت الفلك التاسع. وإليك عبارته بنصها:
قال: "وأما ما بلَّغ النبى ﷺ عن ربه عَزَّ وجَلَّ من قوله: ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ "فنقول: إن الكلام المستفيض فى استواء الله تعالى على العرض من أوضاعه: أن العرش نهاية الموجودات المبدعة الجسمانية، وتدَّعى المشبهة من المتشرعين أن الله تعالى على العرش لا على سبيل حلول. هذا، وأما فى كلام الفلسفى فإنهم جعلوا نهاية الموجودات الجسمانية الفلك التاسع الذى هو فلك الأفلاك، ويذكرون أن الله تعالى هناك، وعليه لا على حلول، كما بيَّن أرسطو فى آخر كتاب سماع الكيان. والحكماء المتشرعون أجمعوا على أن المعنَّى بالعرش هو هذا الجُرْم. هذا.. وقد قالوا: إن الفلك يتحرك بالنفس، لأن الحركات إما ذاتية وإما غير ذاتية. والذاتية إما طبيعية، وإما نفسية، ثم بيَّنوا أن نفسها هو الناطق الكامل الفعَّال، ثم بيَّنوا أن الأفلاك لا تفنى ولا تتغير أبد الدهر، وقد ذاع فى الشرعيان أن الملائكة أحياء قطعاً، لا يموتون كالإنسان الذى يموت، فإذا قيل إن الأفلاك أحياء ناطقة لا تموت، والحى الناطق الغير الميت يسمى مَلَكاً، فالأفلاك تُسمى ملائكة. فإذا تقدم هذه المقدمات وضح أن العرش محمول على وجهين: حمل بَشرى، وهو أولى باسم الحمل كالحجر المحمول على ظهر الإنسان، وحمل طبيعى طقولنا: الماء محمول على الأرض، والنار على الهواء. والمعنى هنا الحمل الطبيعى لا الأول. وقوله: يومئذ، والساعة، والقيامة، فالمراد بها ما ذكره الشارع: أن مَن مات قامت قيامته. ولما كان تحقيق النفس الإنسانية عند المفارقة آكد جعل الوعد والوعيد، وأشباههما إلى ذلك الوقت".