( التفسير الفقهى بعد ظهور التقليد والتعصب المذهبى )
ثم خَلَفَ من بعد هؤلاء الأئمة خَلْفٌ سرت فيهم روح التقليد لهؤلاء الأئمة.. التقليد الذى يقوم على التعصب المذهبى، ولا يعرف التسامح، ولا يطلب الحق لذاته ولا ينشده تحت ضوء البحث الحر، والنقد البرئ.
ولقد بلغ الأمر ببعض هؤلاء المقلِّدة إلى أن نظروا إلى أقوال أئمتهم كما ينظرون إلى نص الشارع، فوقفوا جهدهم العلمى على نُصْرة مذهب إمامهم وترويجه، وبذلوا كل ما فى وسعهم لإبطال مذهب المخالفة وتفنيده، وكان من أثر ذلك أن نظر هذا البعض إلى آيات الأحكام فأوَّلها حسبتما يشهد لمذهبه إن أمكنه التأويل، وإلا فلا أقل من أن يؤوّلها تأويلاً يجعلها به لا تصلح أن تكون فى جانب مخالفيه، وأحياناً يلجأ إلى القول بالنسخ أو التخصيص، وذلك إن سُدَّت عليه كل مسالك التأويل، فهذا عبد الله الكرخى المتوفى سنة ٣٤٠ هـ، وهو أحد المتعصبين لمذهب أبى حنيفة يقول: "كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤوَل أو منسوخ".
ومع هذا الغلو فى التعصب المذهبى، فإننا لم نعدم من المقلِّدين مَن وقف موقف الإنصاف من الأئمة، فنظر فى أقوالهم نظرة الباحث الحر الذى يساير الدليل حتى يصل به إلى الحق أيا كان قائله.
وكان لهؤلاء وهؤلاء - أعنى المعصبين وغير المتعصبين - أثر ظاهر فى التفسير الفقهى، فالمتعصبون ينظرون إلى الآيات من خلال مذهبهم فيُنزلونها عليه، وغير المتعصبين ينظرون إليها نظرة خالية من الهوى المذهبى، فيُنزلونها على حسب ما يظهر لهم، وينقدح فى ذهنهم.


الصفحة التالية
Icon