( ١- أحكام القرآن - للجصَّاص (الحنفى) )
* ترجمة المؤلف:
هو أبو بكر، أحمد بن علىّ الرازى، المشهور بالجصَّاص. وُلِد رحمه الله تعالى ببغداد سنة ٣٠٥ هـ (خمس وثلاثمائة من الهجرة).
كان إمام الحنفية فى وقته، وإليه انتهت رياسة الأصحاب. أخذ عن أبى سهل الزجَّاج، وعن أبى الحسن الكرخى، وعن غيرهما من فقهاء عصره. واستقر التدريس له ببغداد، وانتهت الرحلة إليه، وكان على طريق الكرخى فى الزهد، وبه انتفع، وعليه تخرَّج، وبلغ من زهده أنه خُوطِبَ فى أن يلى القضاء فامتنع، وأُعيد عليه الخطاب فلم يقبل. أما مصنفاته فكثيرة. أهمها كتاب "أحكام القرآن" وهو ما نحن بصدده الآن، وشرح مختصر الكرخى، وشرح مختصر الطحاوى، وشرح الجامع الكبير للإمام محمد ابن الحسن الشيبانى، وكتاب أُصول الفقه، وآخر فى أدب القضاء، وعلى الجملة فقد كان الجصَّاص من خيرة العلماء الأعلام، وإليه يرجع كثير من الفضل فى تدعيم مذهب الحنفية على البراهين والأدلة.
هذا وقد ذكره المنصور بالله فى طبقات المعتزلة، وسيأتيك فى تفسيره ما يؤيد هذا القول.
أما وفاته فكانت سنة ٣٧٠ هـ (سبعين وثلاثمائة من الهجرى)، فرحمه الله ورضى عنه.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
يُعَد هذا التفسير من أهم كتب التفسير الفقهى خصوصاً عند الحنفية، لأنه يقوم على تركيز مذهبهم والترويج له، والدفاع عنه. وهو يعرض لسور القرآن كلها ولكنه لا يتكلم إلا عن الآيات التى لها تعلق بالأحكام فقط، وهو - وإن كان يسير على ترتيب سور القرآن - مبوب كتبويب الفقه، وكل باب من أبوابه معنون بعنوان تندرج فيه المسائل التى يتعرَّض لها المؤلف فى هذا الباب.
* *
* استطراده لمسائل فقهية بعيدة عن فقه القرآن:
هذا.. وإن المؤلف - رحمه الله - لا يقتصر فى تفسيره على ذكر الأحكام التى يمكن أن تُستنبط من الآيات - بل نراه يستطرد إلى كثير من مسائل الفقه والخلافيات بين الأئمة، مع ذكره للأدلة بتوسع كبير، مما جعل كتابه أشبه ما يكون بكتب الفقه المقارن، وكثيراً ما يكون هذا الاستطراد إلى مسائل فقهية لا صلة لها بالآية إلا عن بُعْد.
فمثلاً نجده عندما عرض لقوله تعالى فى الآية [٢٥] من سورة البقرة: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾ يستطرد لمذهب الحنفية فى أن من قال لعبيده: مَن بشَّرنى بولادة فلانة فهو حر، فبشَّره جماعة واحداً بعد واحد أن الأول يُعتق دون غيره.
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٢٦] من سورة يوسف: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ﴾... الآية، نجده يستطرد لخلاف الفقهاء فى مُدَّعى الُّقُطة إذا ضكر علامتها، وخلافهم فى اللقيط إذا ادَّعاه رجلان ووصف أحدهما علامة فى جسده، وخلافهم فى متاع البيت إذا ادَّعاه الزوج لنفسه وادَّعته الزوجة لنفسها، وخلافهم فى مصراع الباب إذا ادَّعاه رب الدار والمستأجر.. وغير ذلك من مسائل الخلاف التى لا تتصل بالآية إلا عن بُعْدٍ.
* *
* تعصبه لمذهب الحنفية:
ثم إن المؤلف - رحمه الله وعفا عنه- متعصب لمذهب الحنفية إلى حد كبير، مما جعله فى هذا الكتاب يتعسف فى تأويل بعض الآيات حتى يجعلها فى جانبه، أو يجعلها غير صالحة للاستشهاد بها من جانب مخالفيه، والذى يقرأ الكتاب يلمس روح التعصب فيه فى كثير من المواقف.
فمثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [١٨٧] من سورة البقرة: ﴿ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ﴾.. نجده يحاول بتعسف ظاهر أن يجعل الآية دالة على أن من دخل فى صوم التطوع لزم إتمامه.
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٢٣٢] من سورة البقرة: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾... الآية، نجده يحاول أن يستدل بالآية من عدة وجوه على أن للمرأة أن تعقد على نفسها بغير الولى وبدون إذنه.
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٢] من سورة النساء: ﴿وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾... الآية، وقوله فى الآية [٦] منها: ﴿وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ﴾... الآية، نجده يحاول أن يأخذ من مجموع الآيتين دليلاً لمذهب أبى حنيفة القائل بوجوب دفع المال لليتيم إذا بلغ خمساً وعشرين سنة، وإن لم يؤنس منه الرشد.
* *
* حملة الجصَّاص على مخالفيه: