( ٢- أحكام القرآن - للكيا الهراسى (الشافعى) )
* ترجمة المؤلف:
مؤلف هذا التفسير هو عماد الدين، أبو الحسن علىّ بن محمد بن علىّ الطبرى، المعروف بالكيا الهراسى، الفقيه الشافعى، المولود سنة ٤٥٠ هـ (خمسين وأربعمائة من الهجرة).
أصله من خراسان، ثم رحل عنها إلى نيسابور، وتفقه على إمام الحرمين الجوينى مدة حتى برع، ثم خرج من نيسابور إلى بيهق ودرس بها مدة، ثم خرج إلى العراق، وتولى التدريس بالمدرسة النظامية ببغداد إلى أن توفى سنة ٥٠٤ هـ (أربع وخمسمائة من الهجرة). وكان رحمه الله فصيح العبارة، حلو الكلام، محدِّثاً، يستعمل الأحاديث فى مناظراته ومجالسه، فرضى الله عنه وأرضاه.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه - أهمية هذا التفسير، ومبلغ تعصب صاحبه لمذهب الشافعى:
يعتبر هذا التفسير من أهم المؤلفات فى التفسير الفقهى عند الشافعية، وذلك لأن مؤله شافعى لا يقل فى تعصبه لمذهبه عن الجصَّاص بالنسبة لمذهب الحنفية، مما جعله يُفسِّر آيات الأحكام على وفق قواعد مذهبه الشافعى، ويحاول أن يجعلها غير صالحة لأن تكون فى جانب مخالفيه.
وليس أدل على روح التعصب عند المؤلف من مقدمة تفسيره التى يقرر فيها: "إن مذهب الشافعى رضى الله عنه أسَدُّ المذاهب وأقومها، وأرشدها وأحكمها، وإن نظر الشافعى فى أكثر آرائه ومعظم أبحاثه يترقى عن حد الظن والتخمين، إلى درجة الحق واليقين، والسبب فى ذلك أنه - يعنى الشافعى - بنى مذهبه على كتاب الله تعالى الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وأنه أتيح له درك غوامض معانيه، والغوص على تيار بحره لاستخراج ما فيه، وأن الله تعالى فتح له من أبوابه، ويسَّر عليه من أسبابه، ورفع له من حجابه ما لم يسهل لمن سواه، ولم يتأت لمن عَدَاه".
يقرر صاحبنا هذا، وأنا لا أنكره عليه، ولا أغض من مقام الشافعى رحمه الله، ولكننى أقول: إن تقديم الكتاب بمثل هذا الكلام ناطق بأن الرجل متعصب لمذهبه، وشاهد عليه بأنه سوف يسلك فى تفسيره مسلك الدفاع عن قواعد الشافعى، وفروع مذهبه، وإن أدَّاه ذلك إلى التعسف فى التأويل.
وإذا لم يكفك هذا دليلاً على تعصب الرجل فدونك الكتاب، لتقف بعد القراءة فيه على مبلغ تعصب صاحبه وتعسفه.
* *
*تأدبه مع الأئمة وحملته على الجصَّاص:
غير أن الهراسى - والحق يقال - كان عَفّ اللسان والقلم مع أئمة المذاهب الأخرى، ومع كل مَن يتعرض للرد عليه من المخالفين، فلم يخض فيهم كما خاض الجصَّاص فى الشافعى وغيره، وكل ما لاحظناه عليه من ذلك هو أنه وقف من الجصَّاص موقفاً كان فيه شديد المراس، قوى الجدال، قاسى العبارة، إذ أنه عرض لأهم مواضع الخلاف التى ذكرها الجصَّاص فى تفسيره وعاب فيها مذهب الشافعى، ففنَّد كل شُبهة أوردها، ودفع كل ما وجهه إلى مذهب الشافعى، بحجج قوية يسلم له الكثير منها، كما أنه اقتص للشافعى من الجصَّاص، فرماه بالعبارات الساخرة، واللفاظ المقذعة "والجزاء من جنس العمل".
فمثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٢٣] من سورة النساء: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾.... الآية، نجده يرد على الجصَّاص ما استدل به لمذهبه القائل بأن الزنا بامرأة يُحَرِّم على الزانى أُصول المرأة وفروعها، ويُفنِّد ما رد به الجصَّاص على الشافعى فى هذه المسألة، ثم يقول فى شأن الجصَّاص: "إنه لم يفهم معنى كلام الشافعى رضى الله عنه، ولم يميز بين محل ومحل، ولكل مقام مقال، ولتفهم معانى كتاب الله رجال، وليس هو منهم".
كما يقول: "وقد ذكر الشافعى مناظرة بينه وبين مسترشد طلب الحق فى هذه المسألة، فأوردها الرازى متعجباً منها، ومنبهاً على ضعف كلام الشافعى فيها، ولا شىء أدل على جهل الرازى وقِلَّة معرفته بمعانى الكلام من سياقه لهذه المناظرة، واعتراضاته عليها".
ويقول بعد قليل: "ولم يعلم هذا الجاهل معنى كلام الشافعى رضى الله عنه فاعترض علي بما قاله، وعجب الناس من ذلك، فقال: فى هذه المناظرة أعجوبة لمن تأمل. فكان كما قال القائل:
*وكم من عائب قولاً صحيحاً * وآفته من الفهم السقيم"*
كما يقول فى موضع آخر: "وكيف يتصدى للتصنيف فى الدين من هذا مبلغ علمه، ومقدار فهمه، فيرسل الكلام من غير أن يتحقق ما يقول.. ثم يعترض للطعن فيمن لو عُمِّرَ عمر نوح ما اهتدى إلى مبادىء نظره فى الحقائق، فنسأل الله تعالى التوفيق، ونعوذ به من عمى البصيرة واتباع الهوى".