( ٤- الجامع لأحكام القرآن - لأبى عبد الله القرطبى (المالكى) )
* ترجمة المؤلف:
مؤلف هذا التفسير: هو الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبى بكر ابن فرْح - بإسكان الراء والحاء المهملة - الأنصارى، الخزرجى، الأندلسى، القرطبى المفسِّر.
كان - رحمه الله - من عباد الله الصالحين، والعلماء العارفين، الزاهدين فى الدنيا، المشغولين بما يعنيهم من أُمور الآخرة، وبلغ من زهده أن أطرح التكلف، وصار يمشى بثوب واحد وعلى رأسه طاقية، وكانت أوقاته كلها معمورة بالتوجه إلى الله وعبادته تارة، وبالتصنيف تارة أخرى، حتى أخرج للناس كتباً انتفعوا بها. ومن مصنفاته: كتابه فى التفسير المسمى بـ "الجامع لأحكام القرآن"، وهو ما نحن بصدده، وشرح أسماء الله الحُسنى، وكتاب التذكار فى أفضل الأذكار، وكتاب التذكرة بأمور الآخرة، وكتاب شرح التقصى، وكتاب قمع الحرص بالزهد والقناعة ورد ذلك السؤال بالكتب والشفاعة. قال ابن فرحون: لم أقف على تأليف أحسن منه فى بابه وله كتب غير ذلك كثيرة ومفيدة.
سمع من الشيخ أبى العباس بن عمر القرطبى، مؤلف "المفهم فى شرح صحيح مسلم" بعضَ هذا الشرح، وحدَّث عن أبى علىّ الحسن بن محمد البكرى، وغيرهما. وكان مستقراً بمنية ابن خصيب، وتُوفى ودُفن بها فى شوَّال سنة ٦٧١ هـ (إحدى وسبعين وستمائة من الهجرة)، فرحمه الله رحمة واسعة.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
وصف العلامة ابن فرحون هذا التفسير فقال: "هو من أجَلِّ التفاسير وأعظمها نفعاً، أسقط منه القصص والتواريخ، وأثبت عوضها أحكام القرآن واستنباط الأدلة، وذكر القراءات والإعراب والناسخ والمنسوخ"، وذكر المؤلف رحمه الله فى مقدمة هذا التفسير السبب الذى حمله على تأليفه، والطريق الذى رسمه لنفسه ليسير عليه فيه، وشروطه التى اشترطها على نفسه فى كتابه فقال: "وبعد.. فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجمع علوم الشرع الذى استقل بالسُّنَّة والفرض، ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض، رأيت أن أشتغل به مدى عمرى، وأستفرغ فه منتى، بأن أكتب فيه تعليقاً وجيزاً يتضمن نكتاً من التفسير، واللُّغات، والإِعراب، والقراءات، والرد على أهل الزيغ والضلالات، وأحاديث كثيرة شاهدة لما نذكره من الأحكام ونزول الآيات، جامعاً بين معانيها، ومبيناً ما أشكل منها بأقاويل السَلَف ومَن تبعهم من الخَلَف.. وشرطى فى هذا الكتاب: إضافة الأقوال إلى قائليها، والأحاديث غلى مصنفيها، فإنه يقال: من بركة العلم أن يُضاف الأقوال إلى قائليها، والأحاديث إلى مصنفيها، فإنه يقال: من بركة العلم أن يُضاف القول إلى قائله، وكثيراً ما يجئ الحديث فى كتاب الفقه والتفسير مبهماً، لا يعرف من أخرجه إلا مَن اطلع على كتب الحديث، فيبقى مَن لا خبرة له بذلك حائراً لا يعرف الصحيح من السقيم، ومعرفة ذلك علم جسيم. فلا يُقبل منه الاحتجاج به ولا الاستدلال حتى يضيفه إلى مَن خرَّجه من الأئمة الأعلام، والثقات المشاهير من علماء الإسلام، ونحن نشير إلى جُمَل من ذلك فى هذا الكتاب، والله الموفق للصواب. وأضرب عن كثير من قصص المفسِّرين، وأخبار المؤرخين، إلا ما لا بد منه، وما لا غنى عنه للتبيين، واعتضت من ذلك تبيين آي الأحكام، بمسائل تُفسِّر عن معناها، وتُرشد الطالب إلى مقتضاها، فضمنت كل آية تتضمن حكماً أو حكمين فما زاد مسائل أُبيِّن فيها ما تحتوى عليه من أسباب النزول، والتفسير، والغريب، والحكم. فإن لم تتضمن حكماً ذكرتُ ما فيها من التفسير والتأويل... وهكذا إلى آخر الكتاب، وسميته بـ "الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السُّنَّة وأحكام الفرقان...".
والذى يقرأ فى هذا التفسير يجد أن القرطبى - رحمه الله - قد وفَّى بما شرط على نفسه فى هذا التفسير، فهو يعرض لذكر أسباب النزول، والقراءات، والإعراب، ويبين الغريب من ألفاظ القرآن، ويحتكم كثيراً إلى اللُّغة، ويُكثر من الاستشهاد بأشعار العرب، ويرد على المعتزلة، والقدرية، والروافض، والفلاسفة، وغلاة المتصوفة، ولم يسقط القصص بالمرة، كما تفيده عبارة ابن فرحون، بل أضرب عن كثير منها، كما ذكر فى مقدمة تفسيره، ولهذا نلاحظ عليه أنه يروى أحياناً ما جاء من غرائب القصص الإسرائيلى.
هذا.. وإن المؤلف - رحمه الله - ينقل عن السَلَف كثيراً مما أُثِر عنهم فى التفسير والأحكام، مع نسبة كل قول إلى قائله وفاءً بشرطه، كما ينقل عمن تقدمه فى التفسير، خصوصاً مَن أَلَّف منهم فى كتب الأحكام، مع تعقيبه على ما ينقل منها. وممن ينقل عنهم كثيراً: ابن جرير الطبرى، وابن عطية، وابن العربى، والكيا الهراسى، وأبو بكر الجصَّاص.
وأما من ناحية الأحكام، فإنَّا نلاحظ عليه أنه يفيض فى ذكر مسائل الخلاف ما تعلق منها بالآيات عن قُرْب، وما تعلق بها عن بُعْد، مع بيان أدلة كل قول.
* *
* إنصاف القرطبى وعدم تعصبه:


الصفحة التالية
Icon