ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٢٣٦] من سورة البقرة: ﴿لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾، نجده يذكر فى المسألة السادسة من مسائل هذه الآية اختلاف العلماء فى حكم المتعة، فيذكر مَن يقول بوجوبها، ويذكر مَن يقول بندبها، ويعد فى ضمن القائلين بالندب مالكاً رحمه الله، ثم يقول: "تمسك أهل القول الأول بمقتضى الأمر، وتمسك أهل القول الثانى بقوله تعالى: ﴿حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾، و﴿عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين. والقول الأول أولى، لأن عمومات الأمر بالامتناع فى قوله: ﴿مَتِّعُوهُنَّ﴾، وإضافة الإمتاع إليهم بـ "لام التمليك" فى قوله: ﴿﴾ أظهر فى الوجوب منه فى الندب. وقوله: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ﴾ تأكيد لإيجابها، لأن كل واحد يجب عليه أن يتقى الله فى الإشراك به ومعاصيه، وقد قال تعالى فى القرآن فى الآية [٢] من سورة البقرة: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾.
* *
* موقفه من حملات ابن العربى على مخالفيه:
كذلك نجد القرطبى - رحمه الله - كثيراً ما يدفعه الإنصاف إلى أن يقف موقف الدفاع عمن يهاجمهم ابن العربى من المخالفين، مع توجيه اللَّوم إليه أحياناً، على ما يصدر منه من عبارات قاسية فى حق علماء المسلمين، الذاهبين إلى ما لم يذهب إليه.
فمثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٣] من سورة النساء: ﴿ذالِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ﴾.. نراه يروى عن الشافعى أنه فسَّرها على معنى: الا تكثر عيالكم، ثم يقول: "قال الثعلبى: وما قال هذا غيره وإنما يقال: أعال يعيل إذا كثر عياله، وزعم ابن العربى: أن عال على سبعة معان لا ثامن لها، يقال عال: مال، الثانى: زاد، الثالث: جار. الرابع: افتقر. الخامس: أثقل.. حكاه ابن دريد. قالت الخنساء: "ويكفى العشيرة ما عالها". السادس: عال: قام بمؤنة العيال، ومنه قوله عليه السلام: "وابدأ بمن تعول". السابع: عال: غلب، ومنه: عيل صبره أى غلب، ويقال: أعال الرجل: كثر عياله. وأما "عال" بمعنى كثر عياله فلا يصح، قلت: أما قول الثعلبى: "ما قاله غيره" فقد أسنده الدارقطنى فى سُنَنه عن زيد بن أسلم، وهو قول جابر بن زيد.. فهذان إمامان من علماء المسلمين وأئمتهم قد سبقا الشافعى إليه. وأما ما ذكره ابن العربى من الحصر وعدم الصحة فلا يصح. وقد ذكرنا: عال الأمر: اشتد وتفاقم.. حكاه الجوهرى. وقال الهروى فى غريبه: "وقال أبو بكر: يقال: عال الرجل فى الأرض يعيل فيها: إذا ضرب فيها. وقال الأحمر: يقال: عالنى الشىء يعيلنى عَيْلاً ومعيلاً: إذا أعجزك، وأما "عال": كثر عياله، فذكره الكسائى وأبو عمرو الدورى وابن الأعرابى. قال الكسائى أبو الحسن علىّ ابن حمزة: العرب تقول عال يعول وأعال يعيل أى كثر عياله. وقال أبو حاتم: كان الشافعى أعلم بلغة العرب منا.. ولعله لغة. قال الثعلبى المفسِّر : قال أستاذنا أبو القاسم ابن حبيب: سألت أبا عمرو الدورى عن هذا - وكان إماماً فى اللُّغة غير مدافع - فقال: هى لغة حِمْيَر وأنشد:
*وإن الموت يأخذ كل حى * بلا شك وإن أمشى وعالا*
يعنى: وإن كثر ماشيته وعياله. وقال أبو عمرو بن العلاء: لقد كثرت وجوه العرب حتى خشيتُ أن آخذ على لاحن لحناً. وقرأ طلحة بن مصرف: "ألا تعيلوا"، وهي حُجَّة الشافعى رضى الله عنه. قدح الزجَّاج وغيره فى تأويل "عال" من العيال بأن قال: إن الله تعالى قد أباح كثرة السرارى وفى ذلك تكثير العيال. فكيف يكون أقرب إلى ألا تكثر العيال؟ وهذا القدح غير صحيح، لأن السرارى إنما هى مال يُتصرف فيه بالبيع، وإنما القادح: الحرائر ذوات الحقوق الواجبة. وحكى ابن الأعرابى: أن العرب تقول: عال الرجل إذا كثر عياله".
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٦٧] من سورة النحل: ﴿وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً﴾... نراه يعيب على ابن العربى تشنيعه على مَن يقول من الحنفية وغيرهم بحل النبيذ، وجعله إياهم مثل أغبياء الكفار فيقول: "وهذا تشنيع شنيع، حتى يلحق فيه العلماء الأخيار فى قصور الفهم بالكفار".
وعلى الجملة.. فإن القرطبى رحمه الله فى تفسيره هذا حُرٌ فى بحثه، نزيهٌ فى نقده، عفٌ فى مناقشته وجدله، مُلِمٌ بالتفسير من جميع نواحيه، بارع فى كل فن استطرد إليه وتكلَّم فيه.
أما الكتاب فقد كان النسا محرومين منه إلى زمن قريب، ثم أراد الله له الذيوع بين أُولى العلم فقامت دار الكتب المصرية بطبعه، فتم منه إلى الآن أربعة عشر جزءاً تنتهى بآخر سورة فاطر، وعسى أن يُعَجِّل الله بإتمام ما بقى منه، حتى يتم به النفع، إنه سميع مجيب.
* * *