ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٦] من سورة المائدة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ﴾.... الآية، نراه يعرض لمسألة المسح على الخُفَّين فيقول: "إن المسح على الخُفَّين والجوربين لا يجوز، وهو مروى عن علىّ عليه السلام، وابن عباس، وعمَّار بن ياسر، وأبى هريرة، وعائشة. وقال عامة الفقهاء: إنه يجوز المسح عليهما. حجتنا هذه الآية، وهى قوله تعالى: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ﴾ فأمرت بتطهير الرجلين، والماسح على الخُفَّين لا يكون مُطهِّراً لهما، وكذلك الأخبار التى دلت على الغسل للقدمين. فأما ما رُوِىَ أنه صلى الله عليه وآله مسح على الخفين وأمر به، فهذه الأخبار كانت بمكة وبعد هجرته صلى الله عليه وآله، ثم نزلت سورة المائدة بعد ذلك فكانت ناسخة، ويدل على هذا ما رواه زيد بن علىّ عن آبائه عليهم السلام عن علىّ عليه السلام قال: لما كان فى ولاية عمر جاء بعد بن أبى وقاص فقال: يا أمير المؤمنين؛ ما لقيتُ من عمَّار، قال: وما ذاك؟ قال: خرجتُ وأنا أريدك ومعى الناس، فأمرتُ منادياً فنادى بالصلاة، ثم دعوتُ بطهور فتطَّهرت ومسحت على خُفِّى، وتقدَّمت أُصلى، فاعتزلنى عمَّار، فلا هو اقتدى بى ولا هو تركنى، فجعل ينادى من خلفى: ياسعد؛ أصلاة من غير وضوء؟ فقال عمر: يا عمّار؛ أخرج مما جئتَ به، فقال: نعم.. كان المسح قبل المائدة، قال عمر: يا أبا الحسن؛ ما تقول؟ قال: أقول إن المسح كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فى بيت عائشة، والمائدة نزلت فى بيتها، فأرسل عمر إلى عائشة فقالت: كان المسح قبل المائدة، فقل لعمر: والله لأن يُقطع قدماى بعقبهما أحبُّ إلىّ من أن أمسح عليهما، فقال عمر: لا تأخذ بقول امرأة، ثم قال: أنشد الله امرءاً شهد المسح من رسول الله لما قام، فقام ثمانية عشر رجلاً كلهم رأى رسول الله صلى الله عليه وآله يمسح وعليه جُبَّة شامية ضيقة الكمين، فأخرج يده من تحتها ثم مسح على خُفَّيه، فقال عمر: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: سلهم؛ أقبل المائدة أم بعدها؟ فسألهم، فقالوا: ما ندرى، فقال علىّ عليه السلام: أنشد الله امرءاً مسلماً علم أن المسح قبل المائدة لما قام، فقام اثنان وعشرون رجلاً، فتفرَّق القوم وهؤلاء يقولون: لا نترك ما رأينا.
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس: والله ما مسح رسول الله بعد المائدة، ولأن أمسح على ظهر عير بالفلاة أحبُّ إلىّ من أن أمسح على الخُفَّين. وعن علىّ عليه السلام، سبق الكتاب الخُفَّين - قيل معناه: قطع - وعن أبى هريرة: ما أُبالى على خُفَّى مسحتُ أو على ظهر حمار. فثبت للنسخ بما ذكر. وأما قول جرير: رأيت رسول الله يمسح، وكان إسلامه بعد المائدة فروايته لا تُقبل مع إنكار أمير المؤمنين، لأنه لحق بمعاوية فكان ذلك قدحاً. هذا كلام أهل المذهب والمسألة إجماعية من أهل البيت عليهم السلام".
وهكذا نجد المؤلف - رحمه الله - يناقش مخالفيه من أصحاب المذاهب الأخرى مناقشة حادة، وإن دلَّت على شىء فهو قوة ذهن الرجل، وسعة اطلاعه. هذا.. ولا يكاد القارئ لهذا التفسير يجد فيه خلافاً كثيراَ للمذاهب الفقهية الأخرى، كما هو الشأن فى كتب التفسير الفقهى للإمامية الإثنا عشرية، وهذا راجع إلى تقارب وجهات النظر بين الزيدية وأهل السُّنَّة فى أصول الفقه وفروعه.
* * *