أولاً : اللَّون العلمى للتفسير فى عصرنا الحاضر
تكلمنا عن التفسير العلمى فيما سبق، وبيَّنا أن هذه اللَّون من التفسير كان موضع أخذ ورد بين العلماء الأقدمين، فمنهم مَن أيَّده وقال به، ومنهم مَنه فنَّده ومنع منه.
وقلنا: إن التفسير العلمى كان أكثر رواجاً وأعظم قبولاً لدى المتأخرين، وأجملنا القول فى هذه النطقة الأخيرة، ووعدناك بالتوسع فيها عندما نعرض لهذه الخاتمة التى نحن بصددها، ووفاء بوعدى أقول:
* رواج التفسير العلمى فى عصرنا الحاضر:
إن هذا اللَّون من التفسير - أعنى التفسير العلمى الذى يرمى إلى جعل القرآن مشتملاً على سائر العلوم ما جَدَّ منها وما يَجِدّ - قد استشرى أمره فى هذا العصر الحديث، وراج لدى بعض المثقفين الذين لهم عناية بالعلوم، وعناية بالقرآن الكريم، وكان من أثر هذه النزعة التفسيرية التى تسلَّطت على قلوب أصحابها، أن أخرج لنا المشغوفون بها كثيراً من الكتب يحاول أصحابها فيها أن يُحَمِّلوا القرآن كل علوم الأرض والسماء، وأن يجعلوه دالاً عليها بطريق التصريح أو التلميح، اعتقاداً منهم - كما قلنا - أن هذا بيان لناحية من أهم نواحى صدقه، وإعجازه، وصلاحيته للبقاء.
* *
* أهم الكتب التى عنيت بهذا اللَّون:
ومن أهم هذه الكتب التى ظهرت فيها هذه النزعة التفسيرية كتاب "كشف الأسرار النورانية القرآنية، فيما يتعلق بالأجرام السماوية، والأرضية، والحيوانات، والنباتات، والجواهر المعدنية،" للإمام الفاضل، والطبيب البارع، محمد بن أحمد الإسكندرانى من علماء القرن الثالث عشر الهجرى، وهو كتاب كبير الحجم، يقع فى ثلاثة مجلدات. ومطبوع بالمطبعة الوهبية بمصر سنة ١٢٩٧ هـ، ومنه نسخة بدار الكتب المصرية.
ورسالة عبد الله باشا فكرى فى مقارنة بعض مباحث الهيئة، بالوارد فى النصوص الشرعية، وقد طبعت بالقاهرة سنة ١٣١٥ هـ.
وبين أيدينا كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" لرجل الإصلاح الإسلامى المرحوم السيد عبد الرحمن الكواكبى. وهو عبارة عن مجموع مقالات له، نشرها فى بعض الصحف عندما زار مصر سنة ١٣١٨ هـ، وقد طُبع هذا الكتاب وأُبهم اسم مؤلفه ورُمِز له "الرحالة ك". وفى هذا الكتاب نجد المؤلف - رحمه الله - ينحاز انحيازاً بليغاً إلى هذا اللَّون من ألوان التفسير، فيصف القرآن بأنه "شمس العلوم وكنز الحِكَم"، ويقرر بأن السر فى إحجام العلماء عن تفسير قسمى الآلاء والأخلاق من القرآن، وبيان ما يشتمل عليه من العلوم المختلفة هو "أنهم كانوا يخافون مخالفة رأى بعض السَلَف القاصرين فى العلم فيكفرون فيُقتلون"، ثم يقول: "وهذه مسألة إعجاز القرآن، وهى أهم مسألة فى الدين، لم يقدروا أن يوفوها حقها من البحث، واقتصروا على ما قاله بعض السَلَف أنها هى فصاحته، وبلاغته، وإخباره عن أن الروم من بعد غَلَبِهم سَيَغْلِبُونَ".
ثم نراه يأخذ فى بيان اشتمال القرآن على ما جَدَّ من نظريات علمية تؤيد إعجاز القرآن، فيقول: "إنه لو أُطلق للعلماء عنان التدقيق وحرية الرأى والتأليف كما أُطلق لأهل التأويل والخرافات، لرأوا فى ألوف من آيات القرآن أُلوف آيات من الإعجاز.. لرأوا فيه كل يوم آية تتجدد مع الزمان والحدثان، تبرهن على إعجازه بصدق قوله تعالى: ﴿وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾.. برهان عيان لا مجرد تسليم وإيمان، ومثال ذلك، أن العلم كشف فى هذه القرون الأخيرة حقائق وطبائع كثيرة، تُعزَى لكاشفيها ومخترعيها من علماء أوروبا وأمريكا، والمدقق فى القرآن يجد أكثرها ورد التصريح أو التلميح به فى القرآن منذ ثلاثة عشر قرناً، وما بقيت مستورة تحت غشاء من الخفاء إلا لتكون عند ظهورها معجزة للقرآن، شاهدة بأنه كلام رب لا يعلم الغيب سواه.
وذلك أنهم كشفوا أن مادة الكون هى الأثير، وقد وصف القرآن بدء التكوين فقال: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾..
وكشفوا أن الكائنات فى حركة دائمة دائبة، والقرآن يقول: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا﴾.... إلى أن يقول: ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾.
وحققوا أن الأرض منفتقة من النظام الشمسى، والقرآن يقول: ﴿أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا﴾..
وحققوا أن القمر منشق من الأرض، والقرآن يقول: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾، ويقول: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ﴾..
وحققوا أن طبقات الأرض سبع والقرآن يقول: ﴿خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾..
وحققوا أنه لولا الجبال لاقتضى الثقل النوعى أن تميد الأرض، أى ترتج فى دورتها، والقرآن يقول: ﴿وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ﴾.