ولكن صاحب المنار يستشعر معارضة بعض نصوص القرآن والحديث لما ساقه من أدلة على مُدَّعاه فيقول: "وقد يعارضه - يعنى الحديث السابق - آية انشقاق القمر مع ما ورد فى أحاديث الصحيحين وغيرهما من أن قريشاً سألوا النبى ﷺ آية على نبوته فانشق القمر فكان فِرقتين، ولكن فى الأحاديث الواردة فى انشقاقه عللاً فى متنها وأسانيدها، وإشكالات علمية، وعقلية، وتاريخية، فصَّلناها فى المجلد الثلاثين من المنار، وبيَّنا أن ما تدل عليه الآيات القرآنية المؤيدة بحديث الصحيحين الصريح فى حصر معجزة نبوته ﷺ فى القرآن وكون الآيات المقترحة تقتضى إجابة مقترحيها عذاب الاستئصال، هو الحق الذى لا ينهض لمعارضته شىء".
وإذا كان الشيخ رشيد قد تخلَّص هنا من معارضة الحديث بالطعن فيه، فإنه قد تخلَّص فى موضع آخر من معارضة الآية، حيث فسَّر انشقاق القمر بظهور الحُجَّة"!!
* *
* رأيه فى مسائل من الفقه:
كذلك نجد صاحب المنار يعطى نفسه حرية واسعة فى استنباط الأحكام من القرآن الكريم، مما جعله يخالف جمهور الفقهاء، ويسفههم فيما ذهبوا إليه، وإذا أردتَ مثالاً لذلك فارجع إلى ما كتبه على قوله تعالى فى الآية [١٨٠] من سورة البقرة: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾، فستجد أنه لم يعبأ بما عليه جمهور العلماء من أهل السُّنَّة من أن حكم هذه الآية منسوخ، بصرف النظر عن كون الناسخ آية المواريث أو حديث: "لا وصية لوارث" الذى جنح الشافعى فى الأُم إلى أن متنه متواتر، فراح - رحمه الله - يؤكد بكل ما يملك من حُجَّة: أن حكم الوصية للوالدين والأقربين باق لم يُنسخ، كما راح يُفَنِّد كل دليل تمسَّك به الجمهور. ولا أُطيل بذكر ما قاله فى هذا الموضوع، ويكفى أن أقول لك: إنه أنهى البحث فى هذه المسألة بقوله: "وصفوة القول: أن الآية غير منسوخة بآية المواريث، لأنها لا تعارضها، بل تؤيده، ولا دليل على أنها بعدها، ولا بالحديث، لأنه لا يصلح لنسخ الكتاب، فهى محكمة، وحكمها باق، ولك أن تجعله خاصاً بمن لا يرث من الوالدين أو الأقربين كما روى عن بعض الصحابة، وأن تجعله على إطلاقه، ولا تكن من المجازفين الذين يخاطرون بدعوى النسخ فينبذ ما كتبه الله عليه بغير عذر، ولا سيما بعد ما أكده بقوله: ﴿حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾.
وإن أردت مثالاً آخر فارجع إلى ما ذهب إليه فى آية التيمم من سورة النساء، فسترى أنه يقرر: أن المسافر يجوز له التيمم ولو كان الماء بين يديه ولا عِلَّة تمنعه من استعماله إلا كونه مسافراً، ويخالف بذلك جماعة الفقهاء، ويحمل عليهم حملة شديدة فيما ذهبوا إليه من أن المسافر لا يجوز له التيمم مع وجود الماء، كما ينكر على مَن استشكل الآية من المفسِّرين، ويقول فيما يقول: "سيقول أدعياء العلم من المقلِّدين: نعم، إن الآية واضحة المعنى، كاملة البلاغة على الوجه الذى قررتم، ولكنها تقتضى عليه أن التيمم فى السفر جائز ولو مع وجود الماء. وهذا مخالف للمذاهب المعروفة عندنا، فكيف يعقل أن يخفى معناها هذا على أُولئك الفقهاء المحققين؟ وكيف يعقل أن يخلفوها من غير معارض لظاهر ما أرجعوها إليه؟. ولنا أن نقول لمثل هؤلاء - وإن كان المقلِّد لا يحتاج لأنه علم له -: وكيف يعقل أن يكون أبلغ الكلام وأسلمه من التكلف والضعف معضلاً مشكلاً؟ وأى الأمرين ألوى بالترجيح؟ الطعن ببلاغة القرآن وبيانه.. لحمله على كلام الفقهاء؟ أو تجويز الخطأ على الفقهاء، لأنهم لم يأخذوا بما دل عليه ظاهر الآية من غير تكلف، وهو الموافق الملتئم مغ غيره من رخص السفر التى فيها قصر الصلاة وجمعها، وإباحة الفطر فى رمضان، فهل يُستنكر مع هذا أن يُرَخَّص للمسافر فى ترك الغُسل والوضوء، وهما دون الصلاة والصيام فى نظر الدين".
إلى أن قال: "ألا إن من أعجب العجب، غفلة جماهير الفقهاء عن هذه الرُخصة الصريحة فى عبارة القرآن، التى هى أظهر وأولى من قصر الصلاة وترك الصيام، وأظهر فى رفع الحَرَج والعُسر الثابت بالنص وعليه مدار الأحكام...".
ثم قال: "وإذا ثبت أن التيمم رُخصة للمسافر بلا شرط ولا قيد، بطلت كل تلك التشديدات التى توسَّعوا فى بنائها على اشتراط فقد الماء، ومنها ما قالوا من وجوب طلبه فى السفر، وما وضعوه لذلك من الحدود كحد القرب وحد الغوث".
* *
* حملته على بعض المفسِّرين:
هذا.. ولا يفوتنا أن نقول: إن صاحب المنار كان كثير التوسع فيما يتعقب به أحياناً قدماء المفسِّرين، خصوصاً الفخر الرازى منهم، مع قسوة منه عليهم فى الكثير الغالب.
* *
* حملته على البدع والخرافات:
كما أنه كان كثير الاستطراد إلى تتبع بدع المسلمين والكشف عن عوارها والإرشاد إلى علاجها، مع تشدد وتعسف منه فى كثير من الأحيان.
* *
شرحه لمبهمات القرآن بما جاء فى التوراة والإنجيل: