هذا... وإن الأستاذ المراغى - رحمه الله - قد نهج فى تفسيره منهج شيخه، فوجدناه لا يخوض فى مُبهمات القرآن بالتفصيل، ولا يدخل فى جزئيات سكت عنها القرآن، وأعرض عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا الروايات الموضوعة أو الضعيفة بكافية عنده حتى يزج بها فى تفسيره، ولا الأخبار الإسرائيلية بمقبولة لديه، حتى يجعل منها شروحاً لما أجمل القرآن وسكت عن تفصيله، فلهذا نراه عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [١٣٣] من سورة آل عمران: ﴿وَسَارِعُو؟اْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾... نجده يقول بعد أن ينتهى من تفسير الآية ما نصه: "والآية تدل بظاهرها على أن الجنَّة مخلوقة الآن، لأن الفعل الماضى يُفْهم هذا. غير أنه من الجائز أن يكون من قبيل قوله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ﴾، فلا يدل على خلقها الآن، والبحث فى هذا لا فائدة له، ولا طائل تحته".
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [١٨٣] من سورة البقرة: ﴿ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾.... الآية، وجدناه يقول: "... ونحن لا نعلم ما هو الذى فرضه الله على الأُمم السابقة من قبل، أهو شهر رمضان كما قال بعض الناس؟ أم غيره؟ وليس لنا ما يهدينا إلى شىء مُعيَّن من دليل يطمئن إليه القلب. والتشبيه لا يدل على المماثلة فى كل شىء، فنحن نؤمن بأن صوماً فُرِضَ على الأُمم السابقة، لا نعلم مقداره ولا كيفيته. ولا يزال الصوم معروفاً عند الأُمم الأخرى على أوضاع مختلفة".
ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [١٢] من سورة لقمان: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للَّهِ﴾.... الآية، وجدناه يقول ما نصه: "اختلف الناس فى لقمان هذا هو مَن هو؟ ومن أى الأُمم هو؟ فقيل: إنه من بنى إسرائيل، وقيل: إنه كان عبداً حبشياً. وقيل: إنه أسود من سودان مصر. وقيل: إنه يونانى. ومن الناس مَن جعله نجاراً، ومنهم مَن جعله راعى غنم، ومنهم مَن قال إنه نبى، ومنهم مَن قال إنه حكيم. وكل هذه أقوال ليس لها سند يعول عليه، وبعد أن وصفه الله بالحكمة فلا يرفع من شأنه أنه كان من أشرف الأُمم، ولا يضع من قدره أنه كان زنجياً مملوكاً".
* *
* عنايته بإظهار أسرار التشريع:
كذلك نجد الأستاذ الأكبر يهتم فى تفسيره اهتماماً كبيراً بإظهار سر التشريع الإسلامى، وحكمة التكليف الإلهى، ليُظهر محاسن الإسلام، ويكشف عن هدايته للناس.
فمثلاً عندما تعرَّض لآيات الصوم فى سورة البقرة، نجده يفيض فى سر الصوم وحكمته فيقول: "الصيام أحد الأركان الخمسة التى بُنِى عليها الإسلام، وهو رياضة بدنية، وتهذيب خُلُقى، وتطهير روحى، وذلك أن الاسترسال فى الشهوات، والانغماس فى اللَّذات حجاب بين الروح وبين الكمالات القدسية والفيض الإلهى، يعوقها عن تلقى الإلهام وعن لذَّة الاتصال، ولذلك يلجأ أرباب المقامات والعارفون إلى الصوم، كلما أحسوا بُعْداً عن الذات الإلهية، وانزعج خاطرهم شوقاً إلى القرب منها.
"وفى الصبر على الحرمان من اللَّذات التى تنازع إليها النفس، وتقتضيها الطبيعة، تربية للإرادة، وتقوية على المضى فى العزم، وعدم نقض العقد والعهد إذا وسوس الشيطان وزيَّن للنفس الخروج عن العهود، لما فيها من المشقات، وفى تقوية الإرادة على هذا النحو إعداد لتلقى التكاليف الإلهية بالقبول والطمأنينة، وتثبيت لمَلَكة المراقبة والخوف من الله، وتقوية لخُلُق الحياة، وفى هذ كل الخير، وبه تتحقق تقوى الله، وتستعد النفس للسخاء، والبذل والتضحية، إذ دعا الداعى، وحان وقت الفصل بين شجعان الرجال وجبنائهم، وبين كرامهم وأنذالهم.
"وليس يخفى أن كل شىء فى هذه الحياة ممكن. الفقر بعد الغنى، والمرض بعد الصحة، والذلة بعد العز، والنزوح عن الأوطان بعد الطمأنينة فيها، وتغلب الأعداء بعد الغلب عليهم وقهرهم... وما إلى ذلك ما هو بسبيل أن يعرض للإنسان. وعروض هذه الأشياء على نفس مدللة، وجسم مترف، ينام بقدر، ويأكل بقدر، ويمرح فى اللَّذات بين الأهل والعشيرة، قد يصدمه صدمة لا يقوى على احتمالها، أو يسوق إليه الجزع ويورثه اليأس.
لذلك كله اقتضت حكمة الحكيم العليم، أن يجعل من العبادات ما يروض الأجسام ويهذب الأخلاق، ويطهر الأرواح ويزكيها.. وكان من هذه العبادات الصوم.


الصفحة التالية
Icon