"الدين يطلب رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم مَن قضى نحبه ومنهم مَن ينتظر، رجالاً باعوا أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنَّة، رجالاً خلقاء بأن يكونوا خلفاء عن الله فى الأرض، يعلمون سرها، ويُسخِّرونه للخير ودفع الأذى، يدفعون عوادى الزمان بمناكبهم كأنهم بنيان مرصوص، يعرفون للكرامة قدرها، وللعزة موضعها، ويميزون بين الأعداء والأصدقاء، ويعلمون أن متاع الحياة الدنيا قليل، وأن الآخرة خير وأبقى".
وعندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٢٥] من سورة الحديد: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾.... الآية.
وجدناه يقول بعد ما شرح الآية: "ذكر الله - سبحانه - الكتاب والميزان والحديد وقرنها بعضها ببعض، فالكتاب: إشارة إلى الأحكام المقتضية للعدل والإنصاف. والميزان: إشارة إلى سلوك الناس على وفق هذه الأحكام. والحديد: إشارة إلى ما يحملهم على اتباع هذه الأحكام إذا تمردوا، والله سبحانه - وهو العيم الحكيم - لا يضع للخلق من القوانين إلا ما فيه مصلحتهم، وخيار الخلق تكفيهم تلاوة الكتاب وعلمه لاتباع ما فيه، وغيرهم لا بد له من وازع، وهو سلطان الحاكم المشار إليه بالحديد، ولذلك وُجِدت التعاذير فى الإسلام، ووُجِدت الحدود. أما ترك الناس أحراراً من غير وازع. فهو ضار بالمجتمع الإنسانى، وموجب للتراخى فى إقامة العدل واتباع القانون، جُرِّب هذا فى العصور المختلفة، وقامت الشواهد الناطقة فى العصر الحديث عليه. وعُلِم أن الأُمم التى لم تحط أخلاقها بوازع، انحدرت إلى الدرك الأسفل وأضلتها الشهوات وقد كانت دُرَّة "عُمَر" سلكاً قوياً للنظام الإسلامى فلما رُفِعَت ضعف ذلك الرباط".
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٦] من سورة لقمان: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾.... الآية، نجده يقول: ".. من الناس فريق مؤمن بالقرآن إجمالاً وبرسالة محمد، ويعظمها ويجلهما فإذا قلت له: لِمَ لا تقطع يد السارق؟ وتحد القاذف؟ إنها رجعية لا يحتملها تمدين العصر الحديث!!.. أليس هذا استهزاءً بالآيات. واشتراءً للباطل؟ وضلالاً عن سبيل الله؟
"هناك مُقلِّدين للمذاهب فى العقائد والأحكام، إذا عُرِضت عليهم الآيات الدالة على فساد مذاهبهم، وَلَّوا عنها وإن كانوا لا يسخرون بها، بل يسخرون بمن يعرضها، أليس هذا شراء للباطل وبيعاً للحق بغير علم؟
"هناك مذاهب ابتُدعت فى الدين للضلال والإضلال بسبب السياسة، وفسر مبتدعوها الآيات فى التأويل ليردوها إلى مذاهبهم المبتدعة وجاء أتباعهم فقلدوهم.
"أما المبتدعون فأمرهم واضح.. اشتروا الضلالة بالهُدى.
"وأما الأتباع فكان عليهم أن ينظروا فى الآيات ويتدبروها عملاً بقوله سبحانه: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾، فهم أيضاً اشتروا الضلالة بالهُدى ولهم بعض العذر".
ومثلاً عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٦] من سورة الحجرات: ﴿ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو؟اْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ﴾.... الآية، نجده يقول: ".. وللتثبت فى الأخبار فضيلة ليست كثيرة عند الناس، وأكثر الناس يقعون فى تصديق الأخبار من حيث لا يشعرون، ولبعض مهرة الكاذبين حيل تخفى على أشد الناس تثبتاً من الأخبار.
"وكثيراً ما يقع عدم التثبت من العظماء الذين يملكون النفع والضرر يجيئهم ذلك من ناحية استبعاد أن يكذب بطانتهم عليهم وهو مدخل للخطر عظيم.
"والذين هم فى أشد الحاجة إلى العمل بهذه الآية هم الذين بيدهم مقاليد الأُمور؟ وبيدهم الضر والنفع. أما الذين لا يملكون ضراً ولا نفعاً فحاجتهم إليها أقل من حاجة هؤلاء.
"والآية - على العموم - أدب عظيم لا بد منه لتكميل النفس، وإعدادها لتعرف الحق والبُعْد عن مواطن الباطل".
* *
* توفيقه بين القرآن والعلم الحديث:
هذا.. وإن الأستاذ المراغى - رحمه الله - كان مع اعتقاده أن القرآن قد أتى بأُصول عامة، لكل ما يهم الإنسان معرفته والعلم به، يكره أن يسلك المفسِّر للقرآن مسلك مَن يجر الآية القرآنية إلى العلوم، أو العلوم إلى الآية، كى يُفسِّرها تفسيراً علمياً يتفق مع نظريات العلم الحديث.