وربما كان هذا العنصر الثالث. وهو عنصر الطريقة الصوفية أقوى تلك العناصر نفوذاً فعلياً في إشاعة حرمة البيئة السنية بين الجمهور، ورفع منزلتها في النظر العام. حتى تكونت بذلك لعلماء السنة منزلة نفوذ روحي يضارع ما لعلماء الشيعة عند عامتهم: من اعتبارات روحانية لم يكن علماء السنة من قبل، يعرفونها.. بل كانوا ينكرونها، ومن صميم تلك البيئة الناشئة ظهر مترجمنا الآلوسي متغذياً، من جميع عناصرها، بصورة لا يقل فيها جانب العنصر الصوفي عن العنصرين الآخرين، بل ربما يكون فائقاً عليهما.
ولد العلامة الآلوسي سنة ١٢١٧هـ بين أب كان من مدرسي العلوم ببغداد، وكان أكبرهم ورئيسهم، وهو السيد عبد الله بن محمود الحسيني، ينتسب إلى الفرع الرضوي الموسوي من فرع النسب الحسيني الكريم، وأم من سلالة علمية يتصل نسبها من جهة الأم بالأشراف القادريين الحسنيين، هي ابنة الشيخ حسن العشاري، وكان أجداد مترجمنا، من آل الآلوسي، قد انتقلوا إلى بغداد منذ أكثر من قرنين آتين من الشمال الغربي للعراق، فاستقروا في بغداد بمنزلة الحرمة والكرامة، وساهموا بنصيب وافر في تكوين تلك البيئة العلميةالتي نشأ منها الشهاب الآلوسي.
فتخرج صاحبنا بأعلام تلك البيئة العلمية البغدادية: من أمثال والده، والشيخ على السويدي، وغيرهما من علماء الحنفية والشافعية.
وكان أسلافه من آل الآلوسي شافعية المذهب، فتفقه في مذهب أسلافه، ونزع في كثير من المسائل إلى الأخذ بالمذهب الحنفي، ورسخت قدمه فيه، حتى أصبح من فقهائه، واختص بالانتساب إلى المذهب الحنفي لما ولي منصب إفتاء الحنفية سنة ١٢٨٤هـ ببغداد، وإن كانت نزعته الحقيقية نزعة استقلالية اجتهادية، يجنح فيها إلى السمو عن درجة التقليد، وينفر من وصمة التعصب المذهبي، كما أثبت ذلك ولده في ترجمته، وكما هو لائح من تحريره، ومن مباحث تفسيره.