*****
الطبري
إذا اعتبرنا يحيى بن سلام مؤسس طريقة التفسير الأثري النظري ـــ وإنه لكذلك ــ فإن محمداً ابن جرير الطبري هو ربيب تلك الطريقة، وثمرة ذلك الغراس.
كان التفسير عندما انتهى إلى الطبري، في أوائل القرن الثالث نهراً مزبداً، ذا ركام ورواسب، قد انصب إلى بحر خضم عباب فامتزج بمائه وتشرب من عناصره، وصفا إليه من زبده وتطهر لديه من ركامه ورواسبه.
ذلك هو المثل المضروب حقاً لِما كان للإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري المولود سنة ٢٢٤هـ والمتوفى سنة ٣١٠هـ من الأثر في تطور فن التفسير في القرن الثالث.
فلقد كان رجلاً عجيباً: في جمعه نواحي متباعدة من فنون العلم وبلوغه فيها جميعاً درجة متساوية من الإمامة: فهو من الأئمة المجتهدين أصحاب المذاهب في الفقه، وهو من أئمة الحديث أهل الرواية الواسعة والضبط المتقن: روى عن العراقيين والشاميين والمصريين، وشارك البخاري في كثير من شيوخه وهو من رجال التاريخ والمعرفة الواسعة المفننة بالأحداث والرجال. وقد ألف كتابه المشهور في التاريخ ويعتبر مرجع المراجع، وبه عُد إمام المؤرخين غير منازع، إلى عظيم خلقه، وجميل تقواه، ومتين بيانه، وبديع شعره، حتى قال الخطيب البغدادي في ترجمته من تاريخ بغداد: "جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره".
فكان جديراً بالتفسير حين تناوله الطبري، بتلك المشاركة الواسعة، وذلك التفنن العجيب، أن يبلغ أوجه وأن يستقر على الصورة الكاملة التي تجلت فيها منهجيته، وبرزت بها خصائصه مسيطرة على كل ما ظهر من بعده من تآليف لا تحصى في التفسير.
ولقد أدرك هذه المزية، وشهد له بها، القدماء والمحدثون فسارت نسخه العربية، ونقل إلى اللغة الفارسية في القرن الرابع ثم اعتنى به علماء المشرقيات اعتناءاً زائداً في منتصف القرن الماضي.