وكان مقام الزمخشري من أهل طائفته المعتزلة، مع ما هو معروف به من شدة التعصب، يجعل مرجعهم إليه في تفسير ما يدق فهم معناه من القرآن العظيم، مدفوعاً بما يمتاز به ذلك العصر بالنسبة إلى المعتزلة من اعتزاز موروث: بأنهم أهل البلاغة ورجال التأويل. يشوبه إشفاق عظيم من الشعور، فإن هذا الاختصاص قد نوزعوا فيه، أو أنه افتك من أيديهم، فكانوا يرجعون إلى الزمخشري معتزين به منتهين إليه فيبرز لهم، كما قال وصدق في ذلك: "الحقائق من الحجب" فيزيدهم ذلك اعتزازاً وإكباراً ويفيضون في الثناء عليه والإلحاح في وضعه تفسيراً للقرآن جامعاً يعتمدون عليه في نصرة عقيدتهم بتخريج الآيات على مقتضى الطريقة البلاغية التي كانت أزمتها بأيديهم، فكم ألح إخوانه عليه في وضع تفسير شامل، وكم تشفعوا إليه بعظماء فرقته، وعلماء أهل نحلته، وكان ذلك، كما يعرف من تاريخ أوائل القرن السادس، عند ابتداء تراجع أمر المعتزلة، وسلوك فرقتهم سبيل الانقراض، وإلى هذا يشير الزمخشري نفسه عندما يذكر في تفسيره: أن الإلحاح كثر عليه وهو بخوارزم، ولما توجه تلقاء مكة المكرمة واجتاز بلاد الشرق العجمي والشرق العربي لم يزل يلقى في كل بلد "من فيه مسكة من أهلها، وقليل ما هم" متعطشين إلى إنجاز ذلك التفسير، ونزل بمكة في مقام إكرام واحترام من أميرها الشريف علي بن حمزة بن وهاس فزاد إلحاحاً عليه، ودفعاً به إلى إنجاز ما تعطش أصحابه إلى إنجازه، فألف لهم تفسيره الذي سماه: " الكشاف على حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ".. واعتمد في تصنيفه على ما يشعر به مكتملاً في نفسه من المعارف والملكات، المعتمدة على التكوين الأدبي اللغوي الصحيح. وأن المطالع لما تضمن إشارته إلى ذلك من كلامه في خطبة الكشاف ليكاد يهزه كلامه من عطفيه حتى يتمايل لتمايله معجباً كما قال أبو الطيب:
إن أكن معجباً لعجب عجيب
لم يجد فوق نفسه من مزيد