وعظم عند كل فريق من أهل المعارف الدينية حرصه على صيانة أمانته، وإشفاقه عليها، فابتعد حتى عن الأقربين إليه من أهل المعارف الدينية الأخرى، فكان ذلك الانقسام الفكري الهائل الذي ساد القرن الثاني والقرن الثالث: ففصل الفقهاء عن المحدثين، بل فصل من الفقهاء أهل الأثر عن أهل النظر، وفصل الفقهاء والمحدثين معاً عن الصوفية، حتى أصبح اتصال الحكمة بالدين في مجال علم الكلام منظوراً إليه عند الفقهاء والمحدثين والصوفية نظرهم إلى الهجمة الغازية للدين، والوثبة العادية عليه.
ولما كان سبق المعتزلة إلى تعاطي التفسير على الطريقة البلاغية الإعجازية، قد صبغ، إلى حد ما، منهج التفسير العلمي بصبغة الاعتزال، وأقام الفارق بين التفسير العلمي والتفسير الأثري.
فإن انكسار حدة المعتزلة في القرن الرابع، بظهور الإمام الأشعري، وتضعضع حكمتهم المختلطة بانتصار الحكمة الصافية الناصعة الممحصة، التي أقام الأشعري قواعدها، وظهور التفاسير العلمية على ذلك المنهج السني، كل ذلك قد هدأ من روع الفكر الإسلامي، وألف قلوب النافرين من أهل الفقه والحديث والتصوف فبدأ ظنهم يحسن بالحكمة وأهلها.
وبدأت روح الخوف والإشفاق تضعف فيهم، واطمأن أهل كل فن إلى ما بين يدي أهل الفن الآخر من خبرة فتمازجت العلوم تمازجاً عضوياً.
وأصبح كل منها عنصراً مقوماً لوحدة ذلك الكيف الفكري، الجديد باجتماع خصائصه الروحية والعقلية والمادية، أعني الثقافة الإسلامية.


الصفحة التالية
Icon