فالصرفة بهذا المفهوم الجديد عند القاضي عبد الجبار، ليست تلك الصرفة التي عند النظام، أو الجاحظ، والتي تعني : القهر، والجبر، إنما هي صرفة ذاتية، فهم أدركوا بالفطرة، أن أسلوب القرآن في علوه وسموه، وروعة نظمه وبيانه، لا يمكن مجاراته، ومعارضته، فانصرفوا ذاتيا بلا قهر، أو جبر من قوة خارجية عن المعارضة، اقتناعا منهم ويقينا بالعجز، أي أن العقل فكر وجرب، ثم اقتنع بأن إدراكاته التي وصل إليها، تمنعه من الإتيان بمثل هذا القرآن، فالأمر في الحقيقة : انصراف، وليس صرفة. (١)
المبحث الرابع
القائلون بالصرفة من أهل السنة
قد يستغرب كثيرمن الباحثين عندما يقرأ أن بعض كبار علماء أهل السنة يقولون بالصرفة بمفهوميها النظامي، أوالجاحظي، يقول الشهرستاني: محمد بن عبد الكريم ( ت٥٤٨هـ ) أثناء حديثه عن أبي الحسن الأشعري :- ( والقرآن عنده معجز من حيث البلاغة، والنظم، والفصاحة، إذ خير العرب بين السيف وبين المعارضة، فاختاروا أشد القسمين اختيار عجز عن المقابلة، ومن أصحابه من اعتقد أن الإعجاز في القرآن من جهة صرف الدواعي، وهو المنع من المعتاد ) (٢).
وقال الشيخ السفاريني : محمد بن أحمد ( ١١٨٩هـ) :-( وفي شفاء أبي الفضل القاضي عياض بعض ميل للقول بالصرفة، فإنه قال : وذهب الشيخ أبو الحسن ( الأشعري – ) إلى أنه مما يمكن أن يدخل مثله تحت مقدور البشر، ويقدرهم الله عليه، ولكنه لم يكن هذا، ولا يكون، فمنعهم الله هذا، وعجزهم عنه.) (٣)

(١) - د. وليد قصاب : ، التراث النقدي والبلاغي للمعتزلة، ( مرجع سابق ) ص ٣٢٠-٣٢٣. بتصرف.
(٢) - الشهرستاني : الملل والنحل، بهامش الفصل، ج١/ ص ١٣٥- ١٣٦.
(٣) - محمد بن أحمد السفاريني: لوامع الأنوار البهية، ج١/ ص ١٧٥.
والملا علي القاري: شرح الشفاء ج١/ ص ٥٥٠


الصفحة التالية
Icon