وقد صدرت عن فصحائهم وبلغائهم أقوال صريحة تشير الى علو كعبه في هذا المضمار، وذلك إبان تفكيرهم في القرآن، وحيرتهم في جمال نظمه وجلال معناه، ولعل الوليد ابن المغيرة - وهو من بلغاء عصر الوحي - أول من تنبه إلى عظمة القرآن، فكانت كلمته المأثورة أول تقريظ ناله القرآن من بلغاء عصره ومصره والتي يقول فيها :-
(والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق - يشبهه بالنخلة التي ثبت أصلها وقوي وطال فرعها-، وإن غرسه لجنا – أي كثير الجنى وهو الثمر – وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته ) (١)، وما كان له أن يقولها لوعلم إمكان معارضته.
وروى الامام محمد بن اسحق في كتاب السيرة ( أن -عتبة بن ربيعة- كان سيدا في قومه، قال يوما وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله - ﷺ - جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه، وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء.. ويكف عنا.. ؟فقالوا: بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إليه، فقال : يا ابن أخي، إنك منا حيث علمت من السطة(أي : الشرف ) في العشيرة، والكمال في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم، وكفرت من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك
أ مورا، فتنظر فيها لعلك تقبل مني بعضها.

(١) - ابن هشام : السيرة النبوية - ج١ / ص٢٣٤-٢٣٥.


الصفحة التالية
Icon