حياة، إنها سلسلة من التدبير حتى نصل إلى وجود الماء ووجود الحياة، والله من وراء هذا التدبير وكله مما صنعت يداه..
ثم نزول هذا الماء بعد وجوده، وهو الآخر خارقة جديدة ناشئة من قيام الأرض والكون وفق نواميس قدرها الله في هذا الكون، ودبر حركتها ونتائجها؛ فسمح بتكون الماء ونزوله١، ثم تجيء الخطوة التالية لإنزال الماء: ﴿فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ﴾..
سواء في ذلك الأنهار الجارية على سطح الأرض، والأنهار الجارية تحت طباقها مما يتسرب من المياه السطحية، ثم يتفجر بعد ذلك ينابيع وعيونا، أو يتكشف آبارا؛ ويد الله تمسكه فلا يذهب في الأغوار البعيدة التي لا يظهر منها أبدا!!.. ﴿ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ﴾..
والحياة النباتية التي تعقب نزول المطر وتنشأ عنه، خارقة يقف أمامها جهد الإنسان حسيرا، ورؤية النبتة الصغيرة وهى تشق حجاب الأرض عنها، وتزيح أثقال الركام من فوقها، وتتطلع إلى الفضاء والنور والحرية، وهى تصعد في الفضاء رويدا رويداً.. هذه الرؤية كفيلة بأن تملأ القلب المفتوح ذكرى، وأن تثير فيه الإحساس بالله الخالق المبدع الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، والزرع المختلف الألوان - في البقعة الواحدة، أو النبتة الواحدة، أو الزهرة الواحدة - إن هو إلاّ معرض لإبداع القدرة، يشعر الإنسان بالعجز المطلق عن الإتيان بشيء منه أصلا!!..
وفي ضوء هذا يتبين لنا بعض أسرار تكرار القرآن الكريم لحديث الماء ونزوله، وما يترتب عليه من أثر عميق في الحياة بما ينبت من الزروع والحدائق، المختلفة الأنواع والأشكال٢.
ومن مشاهد الأرض أننا نراها ساكنة لا حركة فيها ولا حياة، فإذا نزل عليها الماء اهتزت وانتفخت وأنبتت من كل زوج بهيج، قال تعالى:
﴿وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ ٣..
وقال أيضا: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ٤..
واهتزاز الأرض تحركها بالنبات، وإحياؤها بعد موتها، ومعنى (ربت) أي: ارتفعت لما سكن فيها من الثرى، ثم أخرجت من جميع ألوان الزروع والثمار المختلفة الألوان والطعوم والروائح والأشكال والمنافع٥.
٢ انظر في هذا البحث ص ٥.
٣ الحج: ٥.
٤ فصلت: ٣٩.
٥ انظر تفسير ابن كثير ٣/٢٠٨ و٤/١٠٢.