وهكذا فإن القراءات المتواترة جميعاً هي قراءة النبي - ﷺ -، ولا قيمة لأي قراءة لم تحظ بالإسناد المتواتر المتصل إلى النبي - ﷺ -، وليس للأئمة القراء فيها أدنى اجتهاد أو تحكم، بل إن مهمتهم تنحصر في ضبط الرواية وتوثيق النقل، وكان غاية ما فعله هؤلاء الأئمة أن تخصص كل واحد منهم بنوع من أنواع القراءة التي سمعها عن أصحاب النبي - ﷺ - كما نقلوها عنه - ﷺ - وخدمها وتفرغ لإقرائها وتلقينها، فنسبت إليه لا على سبيل أنه أنشأها وابتكرها، بل على سبيل أنه قرأ بها وأقرأ عليها وإلا فالمنشأ واحد وهو المصطفى - ﷺ - عن الروح الأمين عن رب العالمين.
وهذه الحقيقة هي محل اتفاق بين علماء هذه الأمة، لم يقل بخلافها أحد، وسائر ما نقل عن المتقدمين، محمول على أمر واحد لا غير، هو عدم ثبوت التواتر لديهم، كما سنأتي على تفصيله فيما بعد.
------------
(٨) انظر الإتقان للسيوطي جـ١ ص ٨٢.
المبحث الثالث: حكمة القراءات
إذا استقر لديك اليقين على أن هذه القراءات المتواترة جميعاً قد قرأ بها النبي - ﷺ - وأقرأها لم يكن لك أن تتوقف في إيمانك على العلة التي أدت إلى ذلك التعدد، ولا أن تسأل عن الضرورة التي ألجأت إليه، فهو وحي أمين، وهي إرادة الله عز وجل وهو: ﴿لا يسأل عما يفعل وهم يسألون﴾.
ولكن التسليم بربانية مصدر هذه القراءات في سائر وجوهها لا يتناقض مع البحث عن حكمها وأسرارها ودلالاتها، وهي التي يمكن أن يتلمسها المرء لدى دراسته لوجوه هذه القراءات ومعانيها.