مجموعًا أو متفرقًا، وربما اعتزموا الحرف منه فقالوا القول المقنع فيه... حسُن بل وجب التوجه إليه، والتشاغل بعمله، وبسط القول على غامضه ومشكله".
فبذلك كان المحتسب في الاحتجاج لشواذ القراءات، ألفه أبو الفتح وقد عَلَت به السن، وأشرف على نهاية العمر، قال الشريف الرضي : كان شيخنا أبو الفتح النَّحْوِي عمل في آخر عمره كتابًا يشتمل على الاحتجاج بقراءة الشواذ١.
وقال أبو الفتح في مقدمة المحتسب :"وإن قصرت أفعالنا عن مفروضاتك وصلتها برأفتك بنا، وتلافيتنا من سيئات أنفسنا، ما امتدت أسباب الحياة لنا، فإذا انقضت علائق مُددنا، واستُوفي ما في الصحف المحفوظة لديك من عدد أنفاسنا، واستُؤنفت أحوال الدار الآخرة بنا؛ فاقبلنا إلى كنز جنتك التي لم تُخلق إلا لمن وسع ظل رحمتك".
وهذا كلام قلما يقوله إلا امرؤ غلب عليه التفكير في الآخرة، واستبد به حب التزود لها؛ لأنه يشعر أنه منيته قد دنت، وأن حياته قد آذنت بزوال، فهو يتخشع لله، ويبتغي إليه الوسيلة؛ عسى أن يثيبه الله مغفرة منه ورضوانًا، ولعله لذلك سماه المحتسب، واختار أن يدل باسمه على الغرض الذي يريده به، لا على الموضوع الذي يديره عليه.
ومنهج المحتسب كمنهج الحجة، لا يكاد يخالفه إلا بمقدار ما تقتضيه طبيعة الاحتجاج لقراءة الجماعة والقراءة الشاذة، فأبو الفتح يعرض القراءة، ويذكر مَن قرأ بها، ثم يرجع في أمرها إلى اللغة، يلتمس لها شاهدًا فيرويه، أو نظيرًا فيقيسها عليه، أو لهجة فيردها إليها ويؤنسها بها، أو تأويلًا أو توجيهًا فيعرضه في قصد وإجمال، أو تفصيل وافتنان، على حسب ما يقتضيه المقام، ويتطلبه الكشف عن وجه الرأي في القراءة.
وهو في الجملة أَخْذ بها واطمئنان إليها، وربما وقع في نفسك من كثرة ما عدَّد من خصائصها، واستخرج من لطفائها أنه يؤثرها ويحكم لها على قراءة الجماعة، كما في الاحتجاج لقراءة الحسن :"اهدنا صراطًا مستقيمًا"٢.
وإن هو لم يجد للقراءة وجهًا يسكن إليه؛ إما لشذوذه في اللغة، وإما لحاجته في الاحتجاج إلى ضرب من التكلف والاعتساف، لم يتحرج أن يردها أو يضعف القراءة بها، لا يكاد يأخذها هي نفسها بهذا أو ذاك؛ ولكن يأخذ به الوجه الذي يتجه بها إليه، فهو أَخْذ غير مباشر ولا صريح.
فقال مثلًا في الاحتجاج لقراءة ابن مُحَيْصِن :"ثُمَّ أَطَّرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ"٣ بإدغام الضاد في

١ حقائق التأويل : ٥/ ٣٣١.
٢ سورة الفاتحة : ٦.
٣ سورة البقرة : ١٢٦، وانظر ص١٠٦ من هذا الجزء.


الصفحة التالية
Icon