قال أبو الفتح : قد سبق نحو هذا في قراءة أبي عمرو :"يأمُرْكم"، وأنشدنا فيه الأبيات التي أحدها قول جرير :
سيروا بني العم فالأهواز منزلكم ونهر تيرى ولا تعرفْكم العرب١
أراد : لا تعرفُكم، فأسكن الفاء استخفافًا لثقل الضمة مع كثرة الحركات.
ومن ذلك ما رواه هارون عن أَسِيد عن الأعرج أنه قرأ :"لا تُضارْ والدة"٢ جزم، كذا قال، جزم.
قال أبو الفتح : إذا صح سكون الراء في "تضار" فينبغي أن يكون أراد : لا تضارِر، كقراءة إبي عمرو، إلا أنه حذف إحدى الراءين تخفيفًا، وينبغي أن تكون المحذوفة الثانية؛ لأنها أضعف، وبتكريرها وقع الاستثقال. فأما قول الله تعالى :﴿ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا﴾٣ فإن المحذوف هي الأولى؛ وذلك أنهم شبهوا المضعف بالمعتل العين، فكما قالوا : لستَ قالوا : ظلت، ومثله مَستُ في مسِستُ، وأحسْتُ في أحسستُ، قال أبو زُبيد :
خلا أن العِتاق من المطايا أحسن بن فهُنَّ إليه شُوسُ٤
فإن قلت : فهلا كانت الأولى هي المحذوفة من تضارِر كما حذفت الأولى من ظلِلت ومسِست وأحسست؟
قيل : هذه الأحرف إنما حُذفن لأنهن شُبهن بحروف اللين، وحروف اللين تصح بعد هذه الألف نحو : عَاوَدَ وطَاوَلَ وبَايَعَ وسَايَر، والثانية في موضع اللام المحذوفة، نحو : لا تُرامِ.
فإن قيل : فكان يجب على هذا "لا تضارِ"؛ لأن الأولى مكسورة في الأصل؛ فيجب أن تُقر على كسرها.

١ انظر الصفحة ١١٠ من هذا الجزء، والمروي هنا عن أبي عمرو مع الشواهد التي أشار إليها هو :"يعلمهم"، "يلعنهم"، و"إلى بارئكم".
٢ سورة البقرة : ٢٣٣.
٣ سورة طه : ٩٧.
٤ من قصيدة في وصف الاسد. ويروى :"سوى" مكان "خلا". وقبله :
فباتوا يدلجون وبات يسري بصير بالدجى هاد عموس
إلى أن عرسوا وأنخت منهم قريبًا ما يُحَس له مسيس
وعموس : قوى شديد، وشوس : جمع أشوس وشوساء، من الشوس؛ وهو النظر بمؤخَّر العين تكبرًا أو تغيظًا. وانظر : الخصائص : ٢/ ٤٣٨، والمنصف : ٣/ ٨٤، وشواهد الكشاف الملحق به : ٦٩.


الصفحة التالية
Icon