قال أبو الفتح : في هذه القراءة دلالة على أنك إذا قلت : شربت ماءك - وإنما شربت بعضه - كنت صادقًا، وكذلك إذا قلت : أكلت طعامك، وإنما أكلت بعضه.
ووجه الدلالة منه قراءة الباقين :﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ والمعنى واحد في القراءتين، ونحن أيضًا نعلم أن الله سبحانه لم يأمر النبي - ﷺ - بقوله :﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ أي : في جميعه؛ كشرب الماء، وتناول الغذاء؛ وإنما المراد به العاني من أمر الشريعة وما أُرسل عليه السلام له، ومع هذا فقد قال سيبويه في باب الاستقامة والاستحالة من الكلام١ : فأما المستقيم الكذب فهو قولك : حملت الجبل، وشربت ماء البحر ونحوه، فجعْلُه إياه كذبًا يدلك على أن مراده هنا بقوله : ماء البحر جميعه؛ لأنه لا يجوز أن يشرب جميع مائه، فأما على العرف في ذلك على ما مضى فلا يكون كذبًا.
ومن ذلك قراءة جابر بن يزيد وأبي نهيك وعكرمة وجعفر بن محمد :"فإذا عَزَمْتُ"٢ بضم التاء.
قال أبو الفتح : تأويله عندي - والله أعلم - فإذا أَريتُك أمرًا فاعمل به وصِرْ إليه. وشاهده قول الله تعالى :﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾٣، وهذا ليس من رؤية العين؛ لأنه لا مدخل له في الأحكام، ولا من العلم؛ لأن ذلك متعد إلى مفعولين. فإذا نقل بالهمزة وجب أن يتعدى إلى ثلاثة، والذي معنا في هذا الفعل إنما هو مفعولان؛ أحدهما : الكاف، والآخر : الهاء المحذوفة العائدة على "ما"؛ أي : بما أراكه الله. فثبت بذلك أنه من الرأي الذي هو الاعتقاد، كقولك : فلان يرى رأي الخوارج، ويرى رأي أبي حنيفة ورأي مالك، ونحو ذلك؛ فرأيتُ هذه إذن قسم ثالث ليست من رؤية العين ولا من يقين القلب.
وجاز أن يَنْسب سبحانه العزم إليه؛ إذ كان بهدايته وإرشاده، فهو كقوله تعالى :﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾٤، وقد جاء فيه ما هو أقوى معنى من هذا؛ وهو قوله تعالى :﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾٥، فخرج اللفظ فيه نافيًا أوله ما أثبته آخره، والغرض فيه
٢ سورة آل عمران : ١٥٩.
٣ سورة النساء : ١٠٥.
٤ سورة آل عمران : ١٢٨.
٥ سورة الأنفال : ١٧.