وقراءته :"وتُرَى الناسَ سُكرى" بضم التاء يقوي ما قدمناه من أن أُرَى في اليقين دون أَرى؛ لقوله تعالى :﴿وَمَا هُمْ بِسُكَارَى﴾.
ومن ذلك قراءة ابن مسعود والزهري أيضًا :"أو جاء أحد منكم من غَيْط"١.
قال أبو الفتح : فيه صنعة، وذلك "٤٣ظ" أن هذا الحرف مما عينه واو؛ لقوهم تغوَّط الرجل : إذا أتى الغائط، وهو مُطْمَأَنٌّ من الأرض كانوا يقضون فيه حوائجهم. وظاهر أمر غَيْط أنه فَعْل مما عينه ياء، بمنزلة شيخ وبيت. وأمثل ما ينبغي أن يقال فيه : إنه محذوف من فَيْعِل، كأنه في الأصل غيِّط كميت وسيد، ثم حذفت عينه تخفيفًا فبقي مَيْت وسيْد، ومثاله قَيْل٢؛ لأن العين محذوفة.
فإن قلت : فإنا لا نعرف في الكلام غَيِّطًا كما عرفنا سيِّدًا وميِّتًا؟
قيل : قد يجوز أن يكون محذوفًا من فيعِل مقدرًا غير مستعمل، كما أن قولهم : يَذَر ويدع استُغني عنهما بِتَرَك، كما استُغني أيضًا بغائط عن غيِّط، وكما استغني أيضًا بذَكَر ولَمْحة عن مِذْكار ومَلْمَحة اللتين عليهما٣ كسر ملامح ومذاكير.
ويؤكد هذا أن غائطًا إلى غيِّط أقرب من ذَكَر ولَمْحة إلى مِذْكار ومَلْمَحة؛ وذلك لأن ثاني فاعل ألف زائدة كما أن ثاني فيعِل ياء زائدة، والعين فيهما كليهما مكسورة، واللام تلي العين فيهما جميعًا، والياء أيضًا أخت الألف، فكأنهما مثال واحد من حيث ذكرنا، فَبِقدر هذا القرب بينهما ما٤ حسنت إنابة فاعل عن فيعِل، لا سيما وكأن غَيْطًا في اللفظ غيِّط لقربه منه وزنًا.
وفيه قول ثانٍ؛ وهو أن يكون غَيْط فَعْلًا وأصله غَوْط، إلا أن الواو قلبت للتخفيف ياء، كما قلبوها إليها لذلك في قولهم : لا حَيْل ولا قوة إلا بالله؛ أي : لا حول ولا قوة إلا بالله. وقالوا : هو أَليط بقلبي من كذا، وظاهر أمره أن يكون من لُطت الحوض أَلوطه؛ أي : ألصقت بعضه ببعض، فكذلك هو أَليط بقلبي : إذا لصق به، وأصله على هذا أَلْوط، وقلبت الواو ياء استحسانًا كأشياء نحو ذلك، نحو : العلياء وهي من علوت، والعَيْصاء بمعنى العوصاء٥، فهذا الوجه أقرب، والأول أشد وأصنع.
٢ القيل : الملك، أو من ملوك حمير، يقول ما يشاء فينفذ.
٣ سقط في ك من قوله :"اللتين عليهما" إلى قوله :"ملمحة".
٤ ما زائدة.
٥ العوصاء : الكلمة الغريبة، ومن الدواهي الداهية الشديدة.