المصادر من لفظه ومن غير لفظه كما كان معناه، يدل على أن وضعه لاغتراق جنسه؛ إذ الفعل لا يعمل من المصادر إلا فيما كان عليه دليل، ألا تراك لا تقول : قمت قعودًا، ولا خرجت دخولًا؛ لأنه لا دليل في الفعل على ذلك؟ وهذا واضح مُتَنَاهٍ في البيان.
وإذا كان كذلك عُلم منه وبه أن جميع الأفعال ماضيها وحاضرها ومتلقاها مجاز لا حقيقة، ألا تراك تقول : قمت قومة، وقمت على ما مضى، دال على الجنس؟ فوضعك القومة الواحدة موضع جنس القيام، وهو فيما مضى وما هو حاضر وفيما هو متلقى مستقبل، من أذهب شيء في كونه مجازًا.
ولذلك ما١ كان شيخنا أبو علي يقول : إن قولنا : قام زيد في كونه مجازًا بمنزلة قول القائل : خرجت فإذا الأسد، يريد بذلك : أن الأسد هنا لاغتراق الجنس؛ وإنما وجد ببابه أسدًا واحدًا، فأطلقه "٥٧و" على جميع جنسه الذي لا يحيط به إلا خالقه جل وعز.
فهذا كقولك : قام زيد في وضعه إياه على البعض وإن كان مفادُ "قام" الاغتراقَ للكل؛ إذ كان قيام زيد جزءًا مما لا يحاط به، ولا يحاط٢ الوهم إلا على كلَا ولَا٣ على قصوره.
وهذا موضع يسمعه الناس مني ويتناقلونه دائمًا عني، فيُكبرونه ويكثرون العجب به، فإذا أوضحته لم يسأل عنه استحياء، وكان يستغفر الله لاسيحاشه كان منه.
وكشفت هذا الموضع يومًا لبعض من كان له مذهب في المشاغبة - عفا الله عنا وعنه - فتوقف فيه، ثم قال : أوكذلك أفعال القديم عندك؟ فقلت : هذا موضع لا تعلُّق له بذكر القدم والحدوث؛ وإنما هو طريق مسلوكة يتعاقبها القديم والمحدَث تعاقبًا واحدًا، ألا تراك تقول : خلق الله كذا؟ أفتظن أن هذا ينتظم كل خلق في الوهم؟ فإن قلت : نعم، لزمك أن يكون هو الخالق لأفعال العباد، ومذهبك نافٍ لهذا عندك، فلما بلغ الموضعُ بنا إلى هذا أَمسك، ثم مضى فقرأ شيئًا من كلام شيخنا فعاد معترفًا بما قلت له منه، غير أننا أُعلمنا بذلك أن العلل عنده مروية غير مدرية، وليست بحقائق ولا عقلية.
٢ كذا في الأصل، والمعروف أن يستعمل هنا : يحيط.
٣ في اللسان "لا" : إذا أرادوا تقليل مدة فعل أو ظهور شيء خفي قالوا : كان فعله "كلا"، وربما كرروا فقالوا : كلا ولا؛ كأنه يريد : ولا يحيط الوهم - على قصوره - بما يحيط به من القيام إلا في وقت قليل بالنسبة إلى جملة الزمن الذي يقع القيام فيه.