قال أبو الفتح : حكى سيبويه جنَح يجنُح، وهي في طريق ركَد يركُد، وقعَد يقعُد، وسفَل يسفُل في قربها ومعناها. ويؤكد ذلك أيضًا ضَرْبٌ من القياس؛ وهو أن جنح غير متعد، وغير المتعدي الضم أقيس فيه من الكسر، فقعد يقعد أقيس من جلس يجلس؛ وذلك أن يفعُل بابه لِمَا ماضيه فَعُل نحو : شرُف يشرُف، ثم أُلحق به قعد. وباب يفعِل بابه لِمَا يتعدى نحو : ضرب يضرب، فضرب يضرب إذن أقيس من قتل يقتل، كما أن قعد يقعد أقيس من جلس يجلس. وقد تقصيت هذه الطريق في كتابي المنصف١.
ومن ذلك قراءة ابن جماز :"واللهُ يُريد الآخرةِ"٢ يحملها على عَرَضَ الآخرة.
قال أبو الفتح : وجه جواز ذلك على عزته وقلة نظيره أنه لما قال :"تريدون عَرَض الدنيا"، فجرى ذكر العَرَض فصار كأنه أعاده ثانيًا فقال : عَرَض الآخرة "٦٨و" ولا يُنْكَرُ نحو ذلك.
ألا ترى إلى بيت الكتاب :
أكُلَّ امرئ تحسبين امرأً ونارٍ تَوَقَّد بالليل نارا٣
وأن تقديره : وكل نار؟ فناب ذكره "كُلَّا" في أول الكلام عن إعادتها في الآخر، حتى كأنه قال : وكُلَّ نار؛ هربًا من العطف على عاملين، وهما : كل وتحسبين. وعليه بيته أيضًا :
إنَّ الكريم وأبيك يَعتمِلْ إن لم يجد يومًا على من يتكلْ٤
أراد : من يتكل عليه، فحذف "عليه" من آخر الكلام استغناء عنها بزيادتها في قوله : على من يتكل، وإنما يريد : إن لم يجد من يكتل عليه.
وعليه أيضًا قول الآخر :
أتدْفع عن نفس أتاه حِمامُها فهلا التي عن بين جنبيك تَدفع٥

١ المنصف : ١/ ١٨٥ وما بعدها.
٢ سورة الأنفال : ٦٨.
٣ البيت لأبي داود. الكتاب : ١/ ٣٣.
٤ لبعض الأعراب. ويعتمل : يحترف لإقامة العيش. الكتاب : ١/ ٤٤٣، والخصائص : ٢/ ٣٠٥.
٥ في ذيل الأمالي ١٠٦، ١٠٧ : أنه لرجل من محارب يعزي ابن عم له على ولده، وفي سمط اللآلي ٤٩، وشواهد المغني ١٤٩ : أنه لزيد بن رزين بن الملوح المحاربي أخي بني بكر، وهو شاعر فارس. ويروى :"أتجزع" مكان "أتدفع"، ويروى الشطر الثاني :
فهل أنت عما بين جنبيك تدفع؟


الصفحة التالية
Icon