ومن ذلك قراءة ابن محيصن١ وبلال بن أبي بُردة ويعقوب٢ :"أنَّ الحمدَ لله".
قال أبو الفتح : هذه القراءة تدل على أن قراءة الجماعة :﴿أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ على أَنَّ "أَنْ" مخففة من أَنَّ، بمنزلة قول الأعشى :
في فِتيةٍ كسيوف الهند قد علِموا أَنْ هالكٌ كلُّ من يَحفي وينتعل٣
أي : أنه هالك، فكأنه على هذا : وآخر دعواهم أنه الحمد الله، وعلى أنه لا يجوز أن يكون "أنْ" هنا زائدة كما زيدت في قوله :
ويومًا تُوافينا بوجه مقسَّم كأَنْ ظبيةٍ تعطو إلى وارق السَّلَمْ٤
أي : كظبية، وإذا لم يكن ذلك كذلك لم يكن تقديره : وآخر دعواهم الحمد الله، هو كقولك : أول ما أقوله : زيد منطلق. وعلى أن هذا مع ما ذكرناه جائز في العربية؛ لكنَّ فيه خلافًا لتقدير قراءة الجماعة. وفيه أيضًا الحمل على زيادة "أنْ"، وليس بالكثير.
ولو قرأ قارئ : إنَّ الحمدَ لله، بكسر الهمزة على الحكاية التي للفظ بعينه لكان جائزًا؛ لكن لا يُقْدَم على ذلك إلا أن يَرد به أَثر وإن كان في العربية سائغًا. وإذا فتح فقال : أنَّ الحمد لله، فلم يحكِ اللفظ بعينه؛ وإنما جاء بمعنى الكلام كقولنا : بلغني أن زيدًا منطلق، فليس هذا على حكاية ما سمع لفظًا، ألا تراه إذا قيل له : قد انطلق زيد، فقال : بلغني أن زيدًا منطلق كان صادقًا وإن لم يؤد نفس اللفظ الذي سمعه؛ لكنه أدى معناه؟ وإن كسَر فقال : إنَّ الحمد لله، فهو مؤدٍ لنفس اللفظ وحَاكٍ له ألبتة.

١ هو محمد بن عبد الرحمن بن محيصن السهمي مولاهم المكي، مقرئ أهل مكة مع ابن كثير، ثقة. عرض على مجاهد بن جبير ودرباس مولى ابن عباس وسعيد بن جبير. وعرض عليه شبل بن عباد وأبو عمرو بن العلاء. توفي سنة ١٢٣، وقيل : سنة ١٢٢. طبقات القراء لابن الجزري : ٢/ ١٦٧.
٢ هو يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد الله بن إبي إسحاق أبو محمد الحضرمي مولاهم البصري. أحد القراء العشرة، وإمام أهل البصرة ومقرئها. أخذ القراءة عرضًا عن سلام الطويل ومهدي بن ميمون وأبي الأشهب العطاردي وغيرهم. وسمع الحروف من الكسائي ومحمد بن رزيق الكوفي عن عاصم، وسمع من حمزة حروفًا. روى القراءة عنه عرضًا زيد - ابن
أخيه أحمد - وكعب بن إبراهيم وعمر السراج وكثير غيرهم. توفي في ذي الحجة سنة ٢٠٥. طبقات القراء لابن الجزري : ٢/ ٣٨٦ وما بعدها.
٣ الديوان : ٥٩، والكتاب : ١/ ٢٨٢، ٤٤٠، ٤٨٠.
٤ اختلف في قائله؛ فقيل : لابن صريم اليشكري، وقيل : لباعث بن صريم اليشكري، وقيل : لعلباء بن أرقم اليشكري، يقول في امرأته. المقسم : المحسن، تعطو : تتناول، وظبي عطو : يتطاول إلى الشجر ليتناول منه، والسلم : شجر واحدته سلمة. يشبهها بظبية مخصبة تتناول أطراف الشجر مرتعبة. الكتاب : ١/ ٢٨١، ٤٨١، والخزانة : ٤/ ٣٦٤.


الصفحة التالية
Icon