البرِّزين، وخَطِلَت١ إليه المفوَّهين، وخرست لحكمه شقاشق الشياطين، فانتظم لغات العرب على مثناتها٢.... ٣ وارِدَ القراءات من متوجهاتها، فأتى ذلك على طهارة جميعه، وغزارة ينبوعه ضربين :
ضربًا اجتمع عليه أكثر قراء الأمصار، وهو ما أودعه أبو بكر أحمد بن موسى بن مجاهد٤ - رحمه الله - كتابه الموسوم بقراءات السبعة، وهو بشهرته غانٍ عن تحديده.
وضربًا تعدى ذلك، فسماه أهل زماننا شاذًّا؛ أي : خارجًا عن قراءة القراء السبعة المقدم ذكرها، إلا أنه مع خروجه عنها نازع بالثقة إلى قرائه، محفوف بالروايات من أمامه وورائه، ولعله - أو كثيرًا منه - مساوٍ في الفصاحة للمجتمع عليه. نعم، وربما كان فيه ما تلطف صنعته، وتعنُف٥ بغيره فصاحته، وتمطوه٦ قوى أسبابه، وترسو به قَدَمُ إعرابه؛ ولذلك قرأ بكثير منه مَن جاذب ابن مجاهد عِنَان القول فيه، وما كَنَه عليه، وراده إليه؛ كأبي الحسن [٢ظ] أحمد بن محمد بن شَنَبوذ٧، وأبي بكر محمد بن الحسن بن مِقْسم٨، وغيرهما ممن أدى إلى رواية استقواها، وأنحى على صناعة من الإعراب رضيها واستعلاها.
ولسنا نقول ذلك فسحًا بخلاف القراء المجتمع في أهل الأمصار على قراءاتهم، أو تسويغًا للعدول عما أقرته الثقات عنهم؛ لكن غرضنا منه أن نُرِي وجه قوة ما يسمى الآن شاذًّا، وأنه ضارب في صحة الرواية بِجِرانه،

١ خطل في منطقه : اضطرب كلامه. يريد أن ألسن المفوهين يتبين فيها الخلل والاضطراب إذا قيست إليه.
٢ مثناة الجبل : طاقته وقوته، فمثناة اللغات : طاقاتها التي تتألف منها.
٣ بمكان النقط في الأصل طمس لم نتبينه، وبمكانها في ك بياض.
٤ هو أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد التميمي المعروف بابن مجاهد، ولد سنة ٢٤٥هـ ببغداد، وصار إمامًا في القراءات، وهو أول من سبع القراءات، تُوفي سنة ٣٢٤. طبقات ابن الجزري : ١/ ١٣٩.
٥ عنف به : عذله ولامه، يريد أن فصاحته متفوقة، تلوم غيره على تخلفه في مضمار الفصاحة.
٦ تمطوه : تمده.
٧ الذي في القاموس "محمد بن أحمد بن شنبوذ". وفي التاج : وفي كتب الأنساب :"تفرد بقراءات شواذ كان يقرأ بها في المحراب، وأمر بالرجوع فلم يجب، فأمر ابن مقلة به فصفع فمات سنة ٣٢٣"، وفيه :"ويوجد في بعض نسخ الشفاء لعياض : أحمد بن أحمد بن شنبوذ، وهو خطأ، والصواب محمد بن أحمد"، وفي طبقات ابن الجزري في ترجمة ابن مقسم أن ابن شنبوذ كان يعتمد على السنة في القراءة وإن خالف المصحف مع الموافقة للعربية، وله ترجمة واسعة في طبقات ابن الجزري : ٢/ ٥٢.
٨ هو بغدادي أيضًا من أئمة القراءة، ويذكر عنه أنه كان يقول : إن كل قراءة وافقت المصحف ووجهًا في العربية فالقراءة بها جائزة، وكانت وفاته سنة ٣٥٤. طبقات ابن الجزري ٢/ ١٢٣.


الصفحة التالية
Icon