قال أبو الفتح :"باطلًا" منصوب بـ"يعملون"، "ما" زائدة للتوكيد؛ فكأنه قال : وباطلًا كانوا يعملون. ومن بعد ففي هذه القراءة دلالة على جواز تقديم خبر كان عليها؛ كقولك : قائمًا كان زيد، وواقفًا كان جعفر. ووجه الدلالة من ذلك أنه إنما يجوز وقوع المعمول بحيث يجوز وقوع العامل، و"باطلًا" منصوب بـ"يعملون"، والموضع إذن لـ"يعملون" لوقوع معموله متقدمًا عليه؛ فكانه قال : ويعملون باطلًا كانوا.
ومثله قول الله تعالى :﴿أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ﴾؟١ استدل أبو علي بذلك على جواز تقديم خبر كان عليها؛ لأن "إياكم" معمول "يعبدون"، وهو خبر كان، وإنما يجوز وقوع المعمول فيه؛ بحيث يجوز وقوع العامل على ما قدمناه.
وعلى نحو من ذلك ما استدل أبو علي على جواز تقديم خبر المبتدأ عليه بقول الشماخ :
كلا يومَى طُوَالة وصْلُ أروى ظَنُونٌ آن مُطَّرَحُ الظنُونِ٢
فقال :"كلا" ظرف لقوله :"ظَنون"، و"ظنون" خبر المبتدأ الذي هو "وصل أروى"، فدل هذا على جواز تقديم "ظنون" على "وصل أروى"؛ كأنه قال : ظنون في كلا هذين اليومين وصل أروى؛ أي : هومتهم فيهما كليهما. وقد مضى نحو هذا.
ومن ذلك قراءة ابن عباس بخلاف وأيوب السختياني٣ :"فَأَكْثَرْتَ جِدَلَنَا"٤.
قال أبو الفتح : الجدل اسم بمعنى الجِدال والمجادلة، وأصل ج د ل في الكلام : القوة، منه قولهم : غلام جادل : إذا ترعرع وقوي، وركب فلان جَديلة رأيه : أي صمم عليه ولم يلِن فيه. ومنه الأجدل للصقر؛ وذلك لشدة خَلْقه، وعليه بقية الباب. وكذلك الجِدال إنما هو الاقتواء٥ على خصمك بالحجة، قال الله عز وجل :﴿وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾٦ أي : مغالبة بالقول "٧٧ظ" وتقويا.

١ سورة سبأ : ٤٠.
٢ طوالة : بئر في ديار فزارة لبني مرة وغطفان. والظنون : كل ما لا يوثق به. ويريد : قد حان أن أترك الوصل الظنون وأطرحه. الأمالي : ٢/ ٣٢، والسمط : ٦٦٣، ومعجم البلدان.
٣ هو أيوب بن أبي تميمة كيسان أبو بكر السختياني البصري، كان سيد العلماء وعلم الحفاظ ثبتًا من الأيقاظ، له نحو ثمانمائة حديث. توفي سنة ١٣١. شذرات الذهب : ١/ ١٨١.
٤ سورة هود : ٣٢.
٥ اقتوى عليه : تشدد وكان ذا قوة.
٦ سورة الكهف : ٥٤.


الصفحة التالية
Icon