الاحتجاج للقراءات :
بدأ الاحتجاج للقراءات أول العهد به غضًّا يسيرًا، كدأب كل ناشئ يقبل النمو والتطور، فكان قليلًا مفرَّقًا لا يستوعب قراءة بعينها ولا عددًا من القراءات، وكان يعتمد على القياس وحمل القراءة على قراءة أخرى لمشابهة بينهما، إما في مادة اللفظ المختلَف في قراءته، وإما في بنيته، ثم أخذ يتجه مع ذلك إلى التخريج والاستشهاد.
فابن عباس - المتوفَّى سنة ٦٨هـ - يقرأ :"نَنْشُرُها" بالنون المفتوحة والراء١، من قوله تعالى :﴿وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا﴾٢، ويحتج لقراءته بقوله تعالى :﴿ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ﴾٣.
وعاصم الجحدري - المتوفَّى سنة ١٢٨هـ - يقرأ :"مَلِكِ يوم الدين" بغير ألف، ويحتج على من قرأها "مالك" بالألف، فيقول : يلزمه أن يقرأ :"أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَالِكِ النَّاسِ"٤.
وعيسى بن عمر - المتوفَّى سنة ١٤٩ - يقرأ :﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ﴾٥ بنصب الطير، ويقول : هو على النداء.
ويروون أن الكسائي قرأ أمام حمزة بن حبيب :"فَأَكَلَهُ الذِّيبُ"٦ بغير همز، فقال حمزة :"الذئب" بالهمزة، فقال الكسائي : وكذلك أَهمز الحوت "فالتقمه الْحُؤت"؟٧ قال : لا، قال : فلِمَ همزت "الذئب" ولم تهمز "الحوت"، وهذا "فأكله الذئب"، وهذا "فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ"؟ فرفع حمزة بصره إلى خلاد الأحول.... فتقدم إليه في جماعة من أهل المجلس فناظروه فلم يصنعوا شيئًا، فقالوا : أفدنا رحمك الله!
فقال لهم الكسائي :... تقول إذا نسبت الرجل إلى الذئب : قد استذأَب الرجل، ولو قلت : قد استذاب بغير همز لكنت إنما نسبته إلى الْهُزال، تقول : قد استذاب الرجل إذا استذاب شحمه بغير همز، فإذا نسبته إلى الحوت تقول : قد استحات الرجل؛ أي : كثر أكله؛
٢سورة البقرة : ٢٥٩.
٣ سورة عبس : ٢٢.
٤ سورة الناس : ١.
٥ سورة سبأ : ١٠.
٦ سورة يوسف : ١٧.
٧ سورة الصافات : ١٤٢.