وسمعته مرة أخرى يقول - وقد قال له الطبيب : مَصَّ١ التفاح وارم بثُفله : والله لقد كنت أبغي مصه وعِلْيَتُهُ تَغَذُو بفتح الغين، ولا أحد يدعى أن في الكلام يفَعَل بفتح الفاء.
وسمعت جماعة منهم - وقد قيل لهم : قد أقيمت لكم أَنزالكم٢ من الخبز - قالوا : فاللحَم - يريدون : اللحْم - بفتح الحاء٣.
وسمعت بعضهم وهو يقول في كلامه : ساروا نَحَوه بفتح الحاء، ولو كانت الحاء مبنية على الفتح أصلًا لما صحت اللام لتحركها وانفتاح ما قبلها؛ ألا تراك لا تقول :"١٦ظ" هذه عصَوٌ ولا فتَوٌ؟ ولعمري إنه هو الأصل؛ لكن أصل مرفوض للعلة التي ذكرنا، فعلى هذا يكون جَهَرة وزَهَرة - إن شئت - مبنيًّا في الأصل على فَعَلة، وإن شئت كان إتباعًا على ما شرحنا الآن.
ومن ذلك قراءة الأعمش :"اثْنَتَا عَشَرَةَ"٤ بفتح الشين.
قال أبو الفتح : القراءة في ذلك :"عَشْرة" و"عَشِرة"، فأما "عَشَرة" فشاذ، وهي قراءة الأعمش.
وعلى الجملة فينبغي أن يعلم أن ألفاظ العدد قد كثر فيها الانحرافات والتخليطات، ونُقضت في كثير منها العادات؛ وذلك أن لغة أهل الحجاز في غير العدد نظير عشْرة : عشِرة، وأهل الحجاز يكسرون الثاني، وبنو تميم يسكنونه، فيقول الحجازيون : نَبِقة وفَخِذ، وبنو تميم تقول : نبْقة وفخذ، فلما ركب الاسمان استحال الوضع فقال بنو تميم : إحدى عشِرة وثنتا عشِرة إلى تسع عشِرة بكسر الشين، وقال أهل الحجاز : عشْرة بسكونها، ومنه قولهم في الواحد : واحد وأَحد، فلما صاروا إلى العدد قالوا : إحدى عشرة، فبنوه على فِعْلَى، ومنه قولهم : عشْر وعَشرة، فلما صاغوا منه اسمًا للعدد بمنزلة ثلاثون وأربعون قالوا : عشرون، فكسروا أوله، ومنه قولهم : ثلاثون وأربعون إلى التسعون، فجمعوا فيه بين لفظين ضدين؛ أحدهما يختص بالتذكير والآخر بالتأنيث.
أما المختص بالتذكير فهو الواو والنون، وأما المختص بالتأنيث فهو قولهم : ثلاث وأربع وتسع في صدر ثلاثون وأربعون وتسعون. وكل واحد من ثلاث وأربع وخمس وست إلى تسع هكذا بغير هاء مختص بالتأنيث. ولما جمعوا في هذه الأعداد - من عشرين إلى تسعين - بين لفظي التذكير والتأنيث صلحت لهما جميعًا، فقيل : ثلاثون رجلًا، وثلاثون امرأة، وخمسون جارية وخمسون غلامًا، وكذلك إلى التسعين.
ومنه أيضًا اختصارهم من ثلثمائة إلى تسعمائة على أن أضافوه إلى الواحد، ولم يقولوا : ثلاث مئين،
٢ الأنزال : جمع نزل؛ وهو ما هيئ للنزيل.
٣ في هامش الأصل :"في الأصل الفاء".
٤ سورة البقرة : ٦٠.