قال أبو الفتح :"تَكْلِمُهُمْ" : تجرحهم بأكلها إياهم، وهذا شاهد لمن ذهب في قوله "تُكَلِّمُهُمْ" إلى أنه بمعنى تجرحهم بأكلها إياهم. ألا ترى أن "تَكْلِمُهُمْ" لا يكون من الكَلْم وهو الجرح. وهذه المادة مما وضعته العرب عبارة عن الشدة هي وتقاليبها الستة : ك ل م، ك م ل، م ل ك، ل ك م، م ك ل، ل م ك. وقد ذكرناها في كتابنا الخصائص١ أول باب منه، وهو باب القول على فرق بين الكلام والقول.
ويشهد لمن قال في قوله :"تُكَلِّمُهُمْ" إلى أنه من الكلام قراءة أبي :"تُنَبِّئُهُم"، ويشهد لهذا التأويل أيضا قراءة ابن مسعود :"تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُون". وإن شئت كان هذا شاهدا لمن ذهب إلى أن "تُكَلِّمُهُمْ" : تجرحهم، أي : تفعل بهم ذلك بكفرهم، وزوال يقينهم.
ومن ذلك قراءة قتادة :"وَكُلٌّ أَتَاهُ دَاخِرِين"٢.
قال أبو الفتح : حمل "أتاه" على لفظ "كل"؛ إذ كان مفردا، و"داخرين" على معناها. ولو قلب ذلك لم يحسن، لو قال : وكل أتوه داخرا قبح وضعف؛ وذلك أنك لما قلت : وكل فقد جئت بلفظ مفرد، فإذا قلت : أتوه فقد حملت على المعنى وانصرفت عن اللفظ، ثم إذا قلت : من بعد داخرا فأفردت فقد تراجعت إلى ما انصرفت عنه، فكان ذلك قلقا في الصنعة وانتكاثا عن المحجة المصير إليها المعتزمة.
وعلى ذلك قول الله سبحانه :﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾٣. فلو قال : من بعد : حتى إذا خرج من عندك لم يحسن؛ وذلك لأنه قد ترك لفظ. "من" إلى معناه بقوله :"يستمعون". فلو عاد إليه بعدَ انصرافه عنه فقال : خرج عاد إلى ما كان قد رغب عنه. واعتزم غيره عوضا منه. وكذلك قول الفرزدق :
تَعَشَّ فإنْ عاهدْتَنِي لا تخونُنِي نَكُنْ مِثْل مَن يا ذِيبُ يَصْطَحِبان٤

١ الخصائص : ١ : ٥، وذكر هناك في عنوان الباب كلمة "الفصل" مكان "فرق".
٢ سورة النمل : ٨٧.
٣ سورة يونس : ٤٢.
٤ روي "واثقتني" مكان "عاهدتني" وانظر الديوان : ٨٧٠.


الصفحة التالية
Icon