وحملت قدرتنا الأرض. وهذا كقولك : ألبست زيدا الجبة، فإن أقمت المفعول الأول مقام الفاعل قلت : ألبس زيد الجبة، وإن حذفت المفعول الأول أقمت الثاني مقامه، فقلت : ألبست الجبة. نعم، وقد كان أيضا يجوز مع استيفاء المفعول الأول أن يبنى الفعل للمفعول الثاني، فتقول : ألسبت الجبة زيدا، على طريق القلب؛ للاتساع، وارتفاع الشك. فإذا جاز على هذا أن تقول حملت الأرض الملك، فتقيم الأرض مقام الفاعل مع ذكر المفعول الأول - فما ظنك بجواز ذلك وحسنه، بل بوجوبه إذا حذف المفعول الأول؟ وكذلك أطعمت زيدا الخبز، وأطعم زيد الخبز، وتتسع فتقول : أطعم الخبز زيدا، ثم تحذف زيدا، فلا تجد بدا من إقامة الخبز مقام الفاعل، فتقول : أطعم الخبز. ومثله اركب الفرس وأبث الحديث، وكسيت الجبة، وأطعم الطعام، وسقى الشراب، ولقى الخير، ووقى الشر. ورحم الله ابن مجاهد! فلقد كان كبيرا في موضعه، مسلما فيما لم يمهر به.
ومن ذلك قراءة الزهري والحسن وموسى بن طلحة :"الخاطيون١"، بإثبات الياء، ولا يهمز.
قال أبو الفتح : يحتمل هذا قولين :
أحدهما أن يكون تخفيفا للهمز، لكن على مذهب أبي الحسن في قول الله تعالى :"يَسْتَهْزِيون٢"، بإخلاص الهمزة في اللفظ ياء، لانكسار ما قبلها. وسيبويه يجعلها بين حين على مذهبه في مثل ذلك، وقد ذكرناه، وفيه بعض الطول، ومثله أيضا يدق على القراء.
والآخر أن يكون قد بقى من الهمز جزء ما على مذهب سيبويه، إلا أنه يلطف على القراء، فيقولونه بإخلاص الياء، ومعذورون فيه لغموضه.
ومن ذلك ذكر محمد بن ذكوان أنه سمع أباه يقرأ :"وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ٣".
قال أبو الفتح : في هذه القراءة تعريض بما صرحت به القراءة العامة التي هي :"وَلَوْ تَقَوَّلَ"، وذلك أن "تقول" لا تستعمل إلا مع التكذب، فهي مثل تخرص وتزيد. وأما "يقول" فليست مختصة بالباطل دون الحق، وبالكذب دون الصدق، لكن قوله "تعالى" :﴿بَعْضَ الْأَقَاوِيل﴾ فيه الكناية والتعريض بالقبيح، كقولك : للرجل وأنت في ذكر التعتب عليه : لو ذكرني لاحتملته، أي : لو ذكرني بغير الجميل، ودل قولك : لاحتملته وما كنتما عليه من الأحوال - على ذلك، فكذلك قوله :﴿لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾، لا سيما وهناك قوله :"علينا"، فهذا أيضا مما يصحب الذكر غير الطيب؛ لأنه عليه، لا له.

١ سورة الحاقة : ٣٧.
٢ سورة الأنعام : ٥.
٣ سورة الحاقة : ٤٤.


الصفحة التالية
Icon