حذف الهاء كان قبيحا. فقوله تعالى :﴿وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ من هذا القبيل، لا من الأول وأنكر أبو حاتم الجزم على البدل، وقال : لأن المن ليس بالاستكثار فيبدل منه، وبينهما من النسبة ما ذكرته لك.
وأما الوجه الآخر فأ، يكون أراد :﴿تَسْتَكْثِرُ﴾، فأسكن الراء؛ لثقل الضمة مع كثرة الحركات، كما حكاه أبو زيد من قولهم :"بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ١"، بإسكان اللام. وقد مضى هذا فيما قبل مستقصى٢.
فأما "تَسْتَكْثِرُ"، بالنصب فبأن مضمرة على ما أذكره لك، وذلك أن يكون بدلا من قوله :﴿وَلا تَمْنُن﴾ على المعنى. ألا ترى أن معناه لا يكن منك من واستكثار؟ فكأنه قال : لا يكن منك من أن تستكثر فتضمر أن لتكون مع الفعل المنصوب بها بدلا من المن في المعنى الذي دل عليه الفعل، ونظير اعتقاد المصدر مغروما٣ عن الفعل في نحو هذا - قولهم : لا تشتمه فيشتمك٤، أي : لا يكن منك شم له، ولا منه أن يشتمك. فكما ساغ هناك تقدير المصدر، فكذلك ساغ هنا تقديره أيضا.
ومما وقع في الفعل موقع المصدر ما أنشده أبو زيد من قوله :
فقالوا ما تشاء فقلت ألهو إلى الإصباح آثر ذي أثير٥ [١٦٢و]
أراد اللهو موضع ألهو وهذا واضح.
ومن ذلك قراءة أبي جعفر يزيد وطلحة بن سليمان :"عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَر٦"، بإسكان العين. وقرأ أنس بن مالك :"تِسْعَةَ أعَشُرَ".

١ سورة الزخرف : ٨٠.
٢ انظر الصفحة ١٠٩ من الجزء الأول.
٣ مغروما : مؤدي، ومأخوذا، من قولهم : غرم الدية، وفي ك : معدوما، وهو تحريف.
٤ لا يخفى أن الأسلوب في العبارة غير الأسلوب في الآية، فكأنه يريد مجرد المشابهة بينهما في توهم المصدر في الفعل الأول، وإن كان لتوهمه في المثالا ما يقتضيه. وأظهر من هذا أن يكون التأويل : لأن تسكثر، أي لا تمنن من أجل الاستكثار ولطلبه، ثم حذفت اللام، وأضمرت أن كما حذفت عن وأضمرت أن في قول طرفة :
ألا أيها ذا الزاجري أحضر الوغى وأن اشهد اللذات هل أنت مخلدي
وانظر الكشاف.
٥ انظر الصفحة ٣٢ من الجزء الأول.
٦ سورة المدثر : ٣٠.


الصفحة التالية
Icon