لا تذكر الكتب السوالف عنده طلع الصباح فأطفئ القنديلا
فأردت من خلال هذا البحث تسليط الضوء على أسباب ذيوعه، سواء كانت هذه الأسباب راجعة إلى هذا المصنف ذاته، وما كان يحمله في طياته من عوامل القبول والتميز بين كتب التفسير الأخرى. أم هي راجعة إلى أسباب خارجية عنه من عوامل تاريخية وفكرية وغيرها.
وفي رأيي أنه ما من باحث يطلع على تفسير الكشاف للزمخشري، ثم يعرج على تفسير أبي حيان الأندلسي إلا ويغلب عليه الظن بتفوق أبي حيان على الزمخشري في أكثر الجوانب ـ وهي الفرضية التي انطلقنا منها في هذا البحث ـ ومع هذا فإن شهرة الكشاف ظلت تحجب شهرة البحر المحيط لفترة طويلة.
الإشكالية والأهداف المرجوة من هذا البحث :
وتتضح إشكالية هذا البحث من خلال الأسباب التي قدمناها في اختياره، وهي محاولة إجراء موازنة بين كتابين في التفسير مشهورين يجمعهما اتجاه عام هو اتجاه التفسير بالرأي والاجتهاد، كما غلب على تفسيريهما الاهتمام بالجانب اللغوي والنحوي والبلاغي، وهما يصدران في ذلك عن مدرسة واحدة في النحو هي مدرسة البصرة، ويفترقان فيما وراء ذلك مما سنفصله في ثنايا هذا البحث إن شاء الله تعالى.
وننشد من وراء هذه الموازنة الوصول إلى سر تقدم تفسير الكشاف عن تفسير البحر المحيط، وهل هذا التقدم راجع إلى مجرد السبق من الناحية الزمنية وما تميزت به كل مرحلة من عطاء علمي، أم هو راجع لعوامل أخرى قد تكون علمية وموضوعية، وقد تكون غير ذلك ؟
وقد فطر الناس على حب المفاضلة بين الوسائل التي ترمي إلى غرض واحد، والموازنة بين الأنواع التي ترجع إلى أصل واحد.
وليست الموازنة إلا ضربا من ضروب النقد يتميز بها الرديء من الجيد، وتظهر بها وجوه القوة والضعف في الأعمال الأدبية والعلمية، وهي بذلك تتطلب قوة علمية وحاسة نقدية تمكن الباحث من القدرة على الملاحظة، وإدراك وجوه الاتفاق والافتراق بين الأشياء والمتقاربة والمتماثلة.
ففي كلا الموضعين نلاحظ الزمخشري قد طاش به عقله، وصدر عنه من الكلام تجاه الأنبياء الأخيار ما يتنزه عنه كل مؤمن أن ينطق به، فضلا عن أن يجعله تفسيرا لكتاب الله تعالى. بل ذهب إلى تحميل بعض ألفاظ القرآن مالا تحتمله، مما يميل بنا أحيانا إلى إساءة الظن به. فلا ندري كيف استنبط من قوله تعالى: "عفا الله عنك " قوله : بئس ما فعلت، فشتان بين العبارة القرآنية التي هي في غاية الأدب والعطف، وبين عبارة الزمخشري التي لم يرد مثلها في القرآن الكريم إلا في ذم سلوك الذي كفروا وأشركوا. وكذلك في المثال الثاني لا ندري كيف استنبط من قوله تعالى لنوح عليه السلام :"ما ليس لك به علم " صفة الغباوة التي تنافي أحد الصفات الأساسية عند الأنبياء، وهي الفطنة، فكان الأولى به وهو يتحدث عن الأنبياء الكرام، أن يتخير الألفاظ والعبارات التي تفيض أدبا، وتليق بمقامات أصحاب العصمة، وتتطابق ومعاني القرآن الكريم ومقاصده، ولا أحسب أن الزمخشري يقصر رصيده اللغوي عن ذلك.
كما جانب الصواب في تفسير آيات أخرى عندما حكم فيها محض العقل دون مراعاة لسياق النص، والغرض الذي ترمي إليه. فجاء كلامه في غاية البطلان، مخالفا للمسلمات العلمية في عصرنا، بل وفي عصره أيضا.
فنجده مثلا في تفسير قوله تعالى " : أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق.." سورة البقرة : ١٨
يقول :( وفيه أن السحاب من السماء ينحدر ومنها يأخذ ماءه، ولا كزعم من يزعم أنه يأخذه من البحر، ويؤيده قوله تعالى(١): " وينزل من السماء من جبال فيها من برد.." )(٢)

(١). سورة النور : ٤٣
(٢). الكشاف : ٣/٢٤٦

ونجد الزمخشري كعادته ينقل آراء الأحناف من غير ذكر لمصادره، فلا يحيل على كتاب من كتب المذهب، ولا ينسب رأيا فقهيا إلى صاحبه أحيانا، وهذا في الحقيقة يقلل من قيمة مادته الفقهية من هذا الجانب، فلا ندري إذا قال مثلا : وعند أبي حنيفة، أو وعند الشافعي كذا لمن يرجع هذا القول من أئمة الحنفية وهم كثيرون، ومن أي مصدر فقهي استقى نقل هذه الآراء الفقهية، ومن تم لا نعرف مدى شهرة هذا القول ووجاهته عندهم إلا إذا رجعنا نحن إلى مصادرهم.
ومن المصادر التي رجع إليها الزمخشري في نقل الذهب الحنفي ولم ينبه عليها كتاب " أحكام القرءان " للجصاص الحنفي(١)حيث نجد في مواضع عديدة من كشافه كلاما مطابقا لما قاله الجصاص مع شيء يسير من التصرف، ويبدو أن تأثره به راجع لما وجد عنده من ميول اعتزالية صرح بها في عدة مواطن من هذا المصنف(٢)وهذه بعض الأمثلة التي تدل على استفادته منه :
ففي تفسير قوله تعالى :" الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور " سورة الحج : ٣٩
قال الزمخشري :(.. وقالوا : فيه دليل على صحة إمامة الخلفاء الراشدين، لأن الله لم يعط التمكين ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة غيرهم من المهاجرين، لاحظ في ذلك للأنصار والطلقاء.)(٣)
(١). هو أحمد بن علي الرازي، أبو بكر الجصاص، إمام أصحاب الري في وقته، تصدر للتدريس ببغداد، قال الخطيب البغدادي : انتهت إليه رئاسة الحنفية، ورحل إليه المتفقهة، وخوطب في أن يلي القضاء فامتنع، توفي سنة : ٣٧٠هـ. انظر : الجواهر المضية : ١/٨٤.
(٢). انظر الذهبي، التفسير والمفسرون : ٢/٤٤١
(٣). الكشاف : ٣/١٦٠

وفي كل ذلك كان الزمخشري يميل إلى تفسير القرءان بالقرءان أكثر من ميله إلى الأنواع الأخرى من التفسير بالمأثور، وعلى الرغم من كونه يتوخى الاختصار في تفسيره، فإنه كان أكثر استعمالا له من أبي حيان، ولعل السبب في تغليب تفسير القرآن بالقرآن عند الزمخشري عنه عند أبي حيان هو تحكيم قاعدة حمل المتشابهات على المحكمات من آيات القرآن عند الزمخشري، وهي قاعدة مشهورة في منهج المعتزلة في تفسر القرءان(١)، وذلك هروبا من نصوص السنة التي تخالف مذهبه، حيث كان يرد بعبارات قاسية وساخرة على خصومه الذين يحكمون السنن في تفسير القرآن، ذاهبا إلى الطعن الصريح في بعض الرواة من الصحابة لتلك المرويات، وإن كانت ثابتة في الصحاح، ولم يكن طعنه في تلك المرويات من جهة النقل بما تعارف عليه نقاد الحديث، وإنما هو من جهة العقل، أو لمجرد أنه يرى فيها ما يخالف ظاهر القرءان، والأمثلة الآتية توضح ذلك.
ففي تفسير قوله تعالى :" فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق. خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد " هود: ١٠٧ ـ ١٠٦
(١). وقد تحدث القاضي عبد الجبار في كتابه " شرح الأصول الخمسة " عن شروط المفسر، فذكر اللغة والفقه وأصوله والرواية وعلم التوحيد.. ثم قال : وكان بحيث يمكنه حمل المتشابه على المحكم والفصل بينهما. انظر : شرح الأصول الخمسة : ٦٠٦

ومثل ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى :" وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا.. " سورة سبأ : ٢٨
حيث حكى عن الزجاج أنه أعربها حالا، قال :" إلا كافة للناس " إلا إرسالة عامة لهم محيطة، لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم، وقال الزجاج : المعنى أرسلناك جامعا للناس في الإنذار والإبلاغ، وحق التاء على هذا أن تكون للمبالغة كتاء " الراوية " و " العلامة " ومن جعله حالا من المجرور متقدما عليه فقد أخطأ، لأن تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار، وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ، ثم لا يقنع به حتى يضم أن يجعل اللام بمعنى " إلى "، لأنه لا يستوي له الخطأ الأول إلا بالخطا الثاني، فلا بد له من ارتكاب الخطأين. )(١)
وقد أفاد الزمخشري من كتاب سيبويه، ونقل عنه تارة نقلا حرفيا، وتارة ملخصا رأيه، ولكنه قليلا ما يذكر إسمه كعادته في إغفال ذكر مصادره الأخرى، وكثيرا ما يجعل من كلام سيبويه في " الكتاب " حجة بنفسه في رفع الخلاف، ولا يتعداه إلى غيره، إجلالا له، وعرفانا بمكانته، ومن الأمثلة على ذلك :
في تفسير قوله تعالى :" لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة.." سورة النساء : ١٦١
(١). الكشاف : ٣/٥٨٢.

فجاء الزمخشري في القرن السادس الهجري، فلم يخلف ظن عبد القاهر، ولم يحد عن سنته، فهو بعد أن أقبل على دراسات المتقدمين يعب منها، وجد في نظرية الجرجاني الأشعري موردا له، وكأنما أحس بثاقب ذهنه أن هذه النظرية تمثل ذروة ما وصلت إليه دراسة البلاغة العربية، ففزع إليها، واتخذها سلاحا في تفسير القرآن وبيان وجه الإعجاز فيه.)(١)
وأمام هذا الإنبهار للزمخشري تجاه علم البلاغة صرح بأنه لا يمكن لأحد أن يتصدى لتفسير كتاب الله وإن كان عالما بالفقه والأصول وعلم الكلام واللغة والنحو والقصص والأخبار.. إن لم يكن بارعا في علمين مختصين بالقرآن هما : علما المعاني والبيان.
قال الزمخشري :( ثم إن أملأ العلوم بما يغمر القرائح، وأنهضها بما يبهر الألباب القوارح، من غرائب نكت يلطف مسلكها، ومستودعات أسرار يدق سلكها، علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه، وإجالة النظر فيه كل ذي علم، كما ذكر الجاحظ في كتاب نظم القرآن، فالفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والحكام، والمتكلم وإن بز أهل الدنيا في صناعة الكلام، وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن القرية أحفظ، والواعظ وإن كان من الحسن البصري أوعظ، والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوي وإن علك اللغات بقوة لحييه، لا يتصدى أحد منهم لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق، ، إلا رجل برع في علمين مختصين بالقرآن، وهما علم المعاني وعلم البيان، وتمهل في ارتيادهما آونة، وتعب في التنقيب عنهما أزمنة، وبعثته على تتبع مظانهما في معرفة لطائف حجة الله، وحرص على استيضاح معجزة رسول الله، بعد أن كان آخذا من سائر العلوم بحظ.. )(٢)
(١). التراث النقدي والبلاغي عند المعتزلة : ٢٢٥
(٢). مقدمة تفسير الكشاف.

وخير دليل على صحة كلامنا هذا هو كون أغلب الأسماء التي ارتبطت بالتصنيف حول تفسير الزمخشري هي أسماء تعود إلى بعض فرق الشيعة من أهل المشرق، وهو ما نفهمه من مقالة السبكي (.. هذا الكتاب الذي اتخذت الأعاجم من دراسته في هذا الزمان ديدنها..)(١)
ونظرا لهذه الأسباب وغيرها فإننا إذا أردنا أن نتتبع أثر كتاب الكشاف في الحركة العلمية، فإننا نجده كالشجرة التي امتدت أغصانها الباسقة في الفضاء، ثم لا زالت تورق وتثمر كل حين، وهكذا تفرقت مادته العلمية في كتب النحو، واللغة والبلاغة، والأدب، والتفسير، حتى ليصعب على الدارس أن يحصر حجم هذا الأثر الذي تركه هذا التفسير فيما بين أيدينا من تراث فكري، وحسبنا أن نلم ببعض هذا الأثر فيما له صلة ببحثنا، والمتعلق بحركة التفسير وعلوم القرآن، وسنرصد هذا التأثير من خلال العناصر الآتية :
١ ـ الاقتباس منه :
كان أغلب من كتب في علوم القرآن عالة على تفسير الكشاف فيما تعلق بالمباحث النحوية والبلاغية، ويأتي في مقدمتهم برهان الدين الزركشي في كتابه " البرهان في علوم القرآن " حيث رجع إلى هذا التفسير فيما يزيد عن مائتي موضع، وإن كان تارة يوافقه وتارة أخرى يخالفه(٢)، فأفاد منه إفادة واسعة فيما يتعلق بالجوانب اللغوية والبلاغية في القرآن الكريم.
ورجع إليه السيوطي في كتابه " الإتقان في علوم القرآن " في مواضع كثيرة، يضيق المقام بذكرها(٣)، وفعل مثل ذلك في كتابه " معترك الأقران في إعجاز القرءان " فكان تارة يقتبس منه بالمعنى، وتارة أخرى يقتبس كلامه بحرفيته مع عزو الكلام إلى الزمخشري.
(١). منهج الزمخشري في تفسير القرءان وبيان إعجازه : ٢٦٧ نقلا عن كتاب معيد النعم ومبيد النقم للسبكي : ١١٤
(٢). انظر البرهان في علوم القرءان، فهرس الأعلام : ٤/٤٦٧
(٣). انظر الإتقان في علوم القرءان : ١/١٥٢. ١/١٥٨. ١/١٧٥. ١/١٧٦. ١/١٧٧

وإنني أسأل الله تعالى في الأخير أن يوفقني وغيري من طلبة العلم والباحثين لمواصلة البحث في هذا الاتجاه، لخدمة عدد من كتب التفسير هي في حاجة لهذا النوع من الخدمة، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، والحمد لله رب العالمين.


Icon